ردٌّ إلى الصواب

في العدد 71 من صحيفة الشهاب كلمة اقتصادية للدكتور علي عبد الواحد وافي جاء فيها:

«ومن ثم ذهب معظم فقهاء الإسلام إلى تحريم الوقف الأهلي وهو أن يحبس المالك غلة ملكة بعد وفاته على فئة محدودة من أقربائه وغيرهم بمقادير وشروط يعينها هو وفق ما يشاؤه وتشاؤه له أهواؤه لما في ذلك من حبس للثروة عن التداول الطبيعي ومن إخلال بقواعد الميراث، وقد اعتمد على هذه المذاهب القانون المصري رقم 18 لسنة 953 إذ ألغى جميع أنواع الوقف الأهلي وخطر إجراءه وقرر أن كل وقف من هذا القبيل يعد باطلاً في المستقبل والذي أقوله في الرد على هذا بيان للحق العلمي هو:

أولاً: ادعاؤه أن معظم فقهاء الإسلام ذهبوا إلى تحريم الوقف الأهلي ادعاء غير صحيح وبطلان بديهي لدى فقهاء الشرع فإن جماهير العلماء من السلف والخلف على إجازة الوقف الأهلي كالخيري سواء بسواء لا يفترقان في أصل المشروعية، وأقل من القليل منهم ذهبوا إلى عدم لزومه لا إلى عدم جوازه، فيصرف ريعه عنده إلى جهة الوقف ملك الواقف ولو رجع عنه حال حياته جاز مع الكراهة ويلزم الوقف عند هذا المانع إذا حكم به حاكم إذ به يرتفع الخلاف، والأوقاف الأهلية كالخيرية، تناولتها أحكام الحكام فهي لازمة إجماعاً فضلاًَ عن كونها في أصلها جائزة. وعامة العلماء على لزوم الوقف ولو لم يحكم به حاكم بل بمجرد القول من الواقف، والدليل العلمي ينصرهم ولو بلغ المانعين لقالوا بلزومه كالجمهور.

قال الصحابي جابر بن عبد الله رضي الله عنه لم يكن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذو مقدرة إلا وقف.

وقال الكمال ابن الهمام: والحق ترجُّح قول عامة العلماء بلزومه لأن الأحاديث والآثار متظافرة على ذلك قولاً كما صح من قوله عليه الصلاة والسلام:« لا يباع ولا يورث» إلى آخره.

وتكرر هذا في أحاديث كثيرة واستمر عمل الأمة والصحابة والتابعين ومن بعدهم على ذلك، أو لها صدقة ـ أي وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صدقة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والزبير ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وعائشة وأسماء أختها وأم سلمة وأم حبيبة وصفية بنت حيي وسعد بن أبي وقاص وخالد بن الوليد وجابر بن عبد الله وعقبة بن عامر وأبي أروى الدوسي وعبد الله بن الزبير كل هؤلاء من الصحابة ثم التابعين بعدهم كلها بروايات، وتوارث الناس أجمعون ذلك...، الخ.

وأبو حنيفة وصاحبه زفر قائلان بمنع لزوم الوقف، وقال السرخسي كان أبو يوسف ـ رحمه الله تعالى ـ يقول أولاً بقول أبي حنيفة ـ رحمه الله تعالى ـ يعني بعدم لزوم الوقف إلا إذا لحقه حكم حاكم ولكنه لما حج مع الرشيد ـ رحمه الله تعالى ـ فرأى وقوف الصحابة رضوان الله عليهم بالمدينة ونواحيها رجع فأتى بلزوم الوقف.

وقال العسقلاني في فتح الباري ما نصه: « قال أبو حنيفة لا يلزم ـ أي: الوقف ـ إلا بقضاء القاضي وخالفه جميع أصحابه إلا زفر، فحكى الطحاوي عن عيسى بن أبان قال كان أبو يوسف يجيز بيع الوقف فبلغه حديث عمر ـ سيأتي إن شاء الله ـ فقال من سمع هذا من ابن عون؟ فحدثه ابن علية، فقال: لا يسع أحداً خلافه، ولو بلغ أبا حنيفة لقال به، فرجع عن بيع الوقف حتى صار كأنه لا خلاف فيه بين أحد ـ أي: كلام الطحاوي أو كلام العسقلاني ـ.

وقد استدل الجمهور للزوم الوقف بالحديث المتفق على صحته وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أما خالد فإنكم تظلمون خالداً قد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله » واستدلوا له أيضاً بالحديث الذي رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة أشياء: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له» فإن الاحتباس والتصدق دالان على لزوم الوقف وإلا فلا احتباس ولا تصدق.

واستدلوا له أيضاً بالحديث الذي رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصاب أرضاً بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أصبت أرضاً لم أصب مالاً قط أنفس منه فكيف تأمرني به قال: « إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها» وفي رواية للبخاري: «تصدق بأصله لا يباع ولا يورث ولكن ينفق خمره» فتصدق عمر أنه لا يباع ولا يوهب ولا يورث، في الفقراء والقربى والرقاب وفي سبيل الله والضيف وابن السبيل، زاد الدار قطني عن نافع: حبيس ما دامت السموات والأرض.

وهذا الحديث الشريف يبين حقيقة الوقف التي ذكرها الفقهاء من أنه إخراج الشيء عن ملك الشخص إلى ملك الله تعالى والتصدق بريعه على الجهة التي يعينها الواقف.

واستدلوا له أيضاً بما رواه النسائي والترمذي عن عثمان أن دخل النبي صلى الله عليه وسلم وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة فقال صلى الله عليه وسلم: «من يشتري بئر رومة فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين يخير لها منها في الجنة» قال عثمان فاشتريتها من صلب مالي. وعن هذا قال الفقهاء: إن للواقف أن ينتفع بوقفه العام. 

واستدلوا له أيضاً بالحديث المتفق على صحته عن أنس مال رابح أن أبا طلحة قال يا رسول الله إن الله يقول:[لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ] {آل عمران:92}.وأن أحب أموالي إلي بيرحاء ـ حديقة في جهة القبلة من المسجد النبوي ـ وأنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث أراك الله فقال صلى الله عليه وسلم: «بخ بخ ذلك مال رابح مال رابح » وقد سمعت أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه أي: حبسها على أقاربها وقفاً عليهم.

على أن من شرط الوقف الأهلي أن يكون آخره جهة بر لا تنقطع، أي: إن هلك الموقف عليهم وخلت رقعة الأرض منهم فإن الريع يصرف إلى جهة بر دائمة والواقف يراعي هذا فيذكر تلك الجهة في سجل الوقف على تقدير هلاك الموقوف عليهم كلهم أجمعين وبهذا يلتقي الوقف الأهلي مع الوقف الخيري من حيث العاقبة والآخرة فبيعه وثوب من الموقوف عليهم على ما ليس لهم لأنهم إنما يملكون الريع فقط، ثم هو قطع الخير عن جهة بر لا تنقطع مآل الوقف.

ثانياً: ادعاء الكاتب أن في الوقف حبس الثروة عن التداول الطبيعي وإخلالا بقواعد الميراث، ادعاؤه هذا غير صحيح أيضاً، فإن الوقف ثروة صحيحة أيضاً، فإن الوقف ثروة صحيحة ثابتة وريعها متداول تداولاً طبيعياً ينتفع به الموقوف عليهم على الأيام والسنين وكم حفظ الوقف من أنساب وضم من عوائل وأسر، وأغاث محرومين، وعال زمِنًا وعواجز من المرتزقة المستحقين، كم توفر بالوقف أناس على العلم والنفع العام فعُلِّموا وعَلَّموا ووعظوا وذكَّروا وتركوا لنا ثروات علمية كبرى بها حفظ الإسلام وتسلسل العلم.

لولا الأوقاف خيريَّة وأهليَّة ما كان للمساجد والمدارس العلمية الشرعية كالأزهر وأضرابه بقاء ولا دوام، وما كان للشعائر قيام فالوقف وشرعه من أولي الأسباب لنصر الإسلام واستمراره فالقضاء عليه قضاء على أكبر الأسباب لحفظه وتأييده.

وزعم الكاتب أن في الوقف بقواعد الميراث زعم خال عن التحقيق العلمي إذ من المعلوم أن المال يصير إرثاً بعد موت المالك له أما في حياته فإنه خالص حقه وله أن يتصرف فيه كما يشاء فيما تجيزه الشريعة الإسلامية وقد سقنا من الأدلة ما فيه بلاغ وكفاية للمنصف.

ثالثاً: إلغاء القانون المصري الوقف الأهلي لا يعدو كونه تصرفاً غير شرعي تمنعه نصوص الدين فلا يجمل بالكاتب دعم رأيه به فالحق أحق بالاتباع، وحكم الحاكم لا يحل ما هو حرام عند الله كما لا يحرم الحلال عنده.

وبعد نحن مسلمون نؤمن بالله ورسوله ونطمئن إلى أن أحكام الله منطوية على حكم هي أوسع مما يطلبه الناس لسعادتهم وأزخر بالفوائد والثمرات الطيبة وقد قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به».

والقرآن الكريم ينادي يقول الله العليم الحكيم: [إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {النور:51}. صدق الله العظيم.

المصدر: مجلة الشهاب، العدد 76 من السنة الثانية 1376هـ=1956م. 

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين