رحمته صلى الله عليه وسلم بالحيوان والجماد

كما نفهم من قول الله تعالى: {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِين}[الفاتحة:2]، أنّ الله جلّ وعلا ربّ كلّ شيء فِي هذا الوجود ومليكه، فكذلك علينا أن نفهم من قول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين}[الأنبياء:107]، شمولَ الرحمة بِالنبيِّ صلى الله عليه وسلم لكلّ شيء فِي هذا الوجودِ: الإنس والجنّ والملائكة، والحيوان والنبات والجماد، ولا عجب في ذلك ولا غرابة، فالله تعالى يختصّ برحمته من يشاء، وَالله ذو الفضل العظيم.

قال أبو بكر بن طاهر رحمه الله تعالى: زيّن الله مُحَمّداً صلى الله عليه وسلم بزينة الرحمة، فكان صلى الله عليه وسلم كلّه رحمة، وجميع شمائله وصفاته رحمة على الخلق، وحياته صلى الله عليه وسلم رحمة، ومماته رحمة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (حياتي خير لكم، ومماتي خير لكم) [ذكره العجلوني في كشف الخفا 1/442 وعزاه للديلمي عن أنس وعزاه في الجامع الصغير للحارث عن أنس، وفيه عند ابن سعد عن بكر بن عبد الله مرسلا بلفظ حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم فإذا مت كانت وفاتي خيرا لكم تعرض على أعمالكم فإن رأيت خيرا حمدت الله وإن رأيت شرا استغفرت لكم].

وكما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله رحمة بأمة قبض نبيّها قبلها، فجعله لها فرطاً وسلفاً) [الفرط بفتح الهاء والراء: هو الذي يتقدم الواردين فيهيئ لهم ما يحتاجون إليه].

وروى الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا رحمة مُهداة) [أخرجه البيهقي في دلائل النبوة].

ومن مظاهر رحمته صلى الله عليه وسلم بالحيوان: أمره صلى الله عليه وسلم بالرفق والإحسان في قتل الحيوان أو ذبحه، وإحداد الشفرة، وإراحة الذبيحة: عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه قَالَ: ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ) [رواه مسلم في كتاب الصيد والذبائح، وما يؤكل من الحيوان برقم /3615/].

ومن مظاهر رحمته صلى الله عليه وسلم بالحيوان: نهيه صلى الله عليه وسلم عن لعن الحيوان: عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَامْرَأَةٌ مِنْ الأَنْصَارِ عَلَى نَاقَةٍ، فَضَجِرَتْ فَلَعَنَتْهَا، فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: خُذُوا مَا عَلَيْهَا وَدَعُوهَا، فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ، قَالَ عِمْرَانُ: فَكَأَنِّي أَرَاهَا الآنَ تَمْشِي فِي النَّاسِ مَا يَعْرِضُ لَهَا أَحَدٌ) [رواه مسلم في كتاب البرّ والصلة والآداب برقم /4699/].

وعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا جَارِيَةٌ عَلَى نَاقَةٍ، عَلَيْهَا بَعْضُ مَتَاعِ الْقَوْمِ، إِذْ بَصُرَتْ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَتَضَايَقَ بِهِمْ الجَبَلُ، فَقَالَتْ: حَلْ، اللَّهُمَّ الْعَنْهَا، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (لا تُصَاحِبْنَا نَاقَةٌ عَلَيْهَا لَعْنَةٌ) .

وَزَادَ فِي رواية: (لا أَيْمُ اللهِ لا تُصَاحِبْنَا رَاحِلَةٌ عَلَيْهَا لَعْنَةٌ مِنْ اللهِ، أَوْ كَمَا قَالَ) [رواه مسلم في كتاب البرّ والصلة والآداب برقم /4700/].

يقول الإمام النوويّ رحمه الله تعالى تعليقاً على هذا الحديث: " واعلم أنّ هذا الحديث قد يُستشكَل معناه، ولا إشكال فيه، بل المراد النهي أن تصاحبهم تلك الناقة، وليس فيه نهي عن بيعها وذبحها وركوبها في غير صحبة النبيّ صلى الله عليه وسلم، بل كلّ ذلك، وما سواه من التصرّفات جائز، لا منع منه، إلاّ من مصاحبته صلى الله عليه وسلم بها، فهذه التصرّفات كلّها كانت جائزة، فمنع بعض منها، فبقي الباقي على ما كان، والله أعلم " [رياض الصالحين ص/462/].

وتبدو لي نكتة لطيفة من نهي النبيّ صلى الله عليه وسلم عن أن يُصحَب بناقةٍ ملعونة، وهي أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم نبيّ الرحمة المهداة للعالمين، واللعنة نوع من الغضب والعذاب، وأنوار رحمته صلى الله عليه وسلم تبدّد ظلمات الغضب والعذاب فلا يجتمعان.

ومن مظاهر رحمته صلى الله عليه وسلم بالحيوان: نهيه صلى الله عليه وسلم عن اتّخاذ الحيوان غرضاً في الرماية، وعن قتل الحيوان صبراً، بحبسه حتّى يموت:

عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: مَرَّ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه بِفِتْيَانٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ نَصَبُوا طَيْراً، وَهُمْ يَرْمُونَهُ، وَقَدْ جَعَلُوا لِصَاحِبِ الطَّيْرِ كُلَّ خَاطِئَةٍ مِنْ نَبْلِهِمْ، فَلَمَّا رَأَوُا ابْنَ عُمَرَ تَفَرَّقُوا، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَنْ فَعَلَ هَذَا ؟ لَعَنَ اللهُ مَنْ فَعَلَ هَذَا، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ مَنْ اتَّخَذَ شَيْئاً فِيهِ الرُّوحُ غَرَضاً) [رواه مسلم في كتاب الصيد والذبائح، وما يؤكل من الحيوان برقم /3619/].

وعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَغُلامٌ مِنْ بَنِي يَحْيَى رَابِطٌ دَجَاجَةً يَرْمِيهَا، فَمَشَى إِلَيْهَا ابْنُ عُمَرَ حَتَّى حَلَّهَا، ثُمَّ أَقْبَلَ بِهَا وَبِالْغُلامِ مَعَهُ، فَقَالَ: " ازْجُرُوا غُلامَكُمْ عَنْ أَنْ يَصْبِرَ هَذَا الطَّيْرَ لِلْقَتْلِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم (نَهَى أَنْ تُصْبَرَ بَهِيمَةٌ أَوْ غَيْرُهَا لِلْقَتْلِ) [رواه البخاريّ في كتاب الصيد والذبائح برقم /5090/].

ومن مظاهر رحمته صلى الله عليه وسلم بالحيوان: نهيه صلى الله عليه وسلم عن أخذ أفراخ الطير عن أمّهاتها، وعن حرق الحيوان بالنار: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ، فَرَأَيْنَا حُمَرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ، فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا، فَجَاءَتْ الحُمَرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرِشُ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا ؟ رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا، وَرَأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا، فَقَالَ: مَنْ حَرَّقَ هَذِهِ ؟ قُلْنَا: نَحْنُ، قَالَ: إِنَّهُ لا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلاّ رَبُّ النَّارِ) [رواه أبو داود في كتاب الجهاد برقم /2300/].

وجاء في حادثة أخرى عَنْ عَامِرٍ الرَّامِ قَالَ: إِنِّي لَبِبِلادِنَا إِذْ رُفِعَتْ لَنَا رَايَاتٌ وَأَلْوِيَةٌ فَقُلْتُ: مَا هَذَا ؟ قَالُوا: هَذَا لِوَاءُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَيْتُهُ، وَهُوَ تَحْتَ شَجَرَةٍ، قَدْ بُسِطَ لَهُ كِسَاءٌ، وَهُوَ جَالِسٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ، فَجَلَسْتُ إِلَيْهِمْ، فَذَكَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الأَسْقَامَ، فَقَالَ: (إِنَّ المُؤْمِنَ إِذَا أَصَابَهُ السَّقَمُ ثُمَّ أَعْفَاهُ اللهُ مِنْهُ كَانَ كَفَّارَةً لِمَا مَضَى مِنْ ذُنُوبِهِ، وَمَوْعِظَةً لَهُ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ، وَإِنَّ المُنَافِقَ إِذَا مَرِضَ ثُمَّ أُعْفِيَ كَانَ كَالْبَعِيرِ عَقَلَهُ أَهْلُهُ ثُمَّ أَرْسَلُوهُ، فَلَمْ يَدْرِ لِمَ عَقَلُوهُ، وَلَمْ يَدْرِ لِمَ أَرْسَلُوهُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِمَّنْ حَوْلَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا الأَسْقَامُ ؟ وَاللهِ مَا مَرِضْتُ قَطُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: قُمْ عَنَّا فَلَسْتَ مِنَّا، فَبَيْنَا نَحْنُ عِنْدَهُ إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ عَلَيْهِ كِسَاءٌ، وَفِي يَدِهِ شَيْءٌ قَدْ الْتَفَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي لَمَّا رَأَيْتُكَ أَقْبَلْتُ إِلَيْكَ، فَمَرَرْتُ بِغَيْضَةِ شَجَرٍ، فَسَمِعْتُ فِيهَا أَصْوَاتَ فِرَاخِ طَائِرٍ، فَأَخَذْتُهُنَّ فَوَضَعْتُهُنَّ فِي كِسَائِي، فَجَاءَتْ أُمُّهُنَّ فَاسْتَدَارَتْ عَلَى رَأْسِي، فَكَشَفْتُ لَهَا عَنْهُنَّ، فَوَقَعَتْ عَلَيْهِنَّ مَعَهُنَّ، فَلَفَفْتُهُنَّ بِكِسَائِي، فَهُنَّ أُولاءِ مَعِي، قَالَ: ضَعْهُنَّ عَنْكَ، فَوَضَعْتُهُنَّ، وَأَبَتْ أُمُّهُنَّ إِلاّ لُزُومَهُنَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأَصْحَابِهِ: (أَتَعْجَبُونَ لِرُحْمِ أُمِّ الأَفْرَاخِ فِرَاخَهَا ؟ قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ! قَالَ: فَوَالَّذِي بَعَثَنِي بِالحَقِّ للهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ أُمِّ الأَفْرَاخِ بِفِرَاخِهَا، ارْجِعْ بِهِنَّ حَتَّى تَضَعَهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُنَّ، وَأُمُّهُنَّ مَعَهُنَّ) ، فَرَجَعَ بِهِنَّ " [رواه أَبُو دَاوُد في كتاب الجنائز برقم/2685/].

ومن مظاهر رحمته صلى الله عليه وسلم بالحيوان: نهيه صلى الله عليه وسلم عن سبّ الدِّيكِ: ففي الحديث عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لا تَسُبُّوا الدِّيكَ، فَإِنَّهُ يُوقِظُ لِلصَّلاةِ) [رواه أبو داود في كتاب الأدب برقم /4437/].

وربّما كانت رحمة الحيوان سبباً لرحمة الله ومغفرته: وتبلغ رحمة الإسلام بالحيوان مدىً لا يتصوّره إنسان، عندما يخبرنا النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ الله تعالى غفر لرجل رحم كلباً عطشان فسقاه، وفي رواية: مومساً: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَنَزَلَ بِئْراً فَشَرِبَ مِنْهَا، ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ، يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ، فَقَالَ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي فَمَلأَ خُفَّهُ، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ، ثُمَّ رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْراً ؟ قَالَ: فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ) [رواه البخاريّ في كتاب المساقاة برقم /2190/].

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (غُفِرَ لامْرَأَةٍ مُومِسَةٍ مَرَّتْ بِكَلْبٍ عَلَى رَأْسِ رَكِيٍّ يَلْهَثُ، قَالَ: كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ، فَنَزَعَتْ خُفَّهَا، فَأَوْثَقَتْهُ بِخِمَارِهَا، فَنَزَعَتْ لَهُ مِنْ المَاءِ، فَغُفِرَ لَهَا بِذَلِكَ) [رواه البخاريّ في كتاب المساقاة برقم /2236/].

وعُذِّبَتْ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا: وفي مقابل ذلك عُذّبت امرأة بالنار، لأنّها حبست هرّةً حتّى ماتت.. عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، لا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا، وَلا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ) [رواه البخاريّ في كتاب المساقاة برقم /2192/ ومسلم في كتاب السلام برقم/4160/ وهذا لفظه.].

ويدافع النبيّ صلى الله عليه وسلم عَنْ جمل مظلوم: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ رضي الله عنه قَالَ: أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَلْفَهُ ذَاتَ يَوْمٍ، فَأَسَرَّ إِلَيَّ حَدِيثاً، لا أُحَدِّثُ بِهِ أَحَداً مِنْ النَّاسِ، وَكَانَ أَحَبُّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِحَاجَتِهِ هَدَفاً، أَوْ حَائِشَ نَخْلٍ، قَالَ: فَدَخَلَ حَائِطاً لِرَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ، فَإِذَا جَمَلٌ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ فَسَكَتَ، فَقَالَ: (مَنْ رَبُّ هَذَا الجَمَلِ ؟ لِمَنْ هَذَا الجَمَلُ ؟ فَجَاءَ فَتىً مِنْ الأَنْصَارِ فَقَالَ: لِي يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: أَفَلا تَتَّقِي اللهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ، الَّتِي مَلَّكَكَ اللهُ إِيَّاهَا ؟! فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ) [رواه أبو داود في كتاب الجهاد برقم /2186/، وذِفرَى البعير أصل أذنه، وهما ذِفريان، والذفرى مؤنّثة، وألفها للتأنيث أو الإلحاق، كما في النهاية 2/161/].

وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي لأَذْبَحُ الشَّاةَ وَأَنَا أَرْحَمُهَا، أَوْ قَالَ: إِنِّي لأَرْحَمُ الشَّاةَ أَنْ أَذْبَحَهَا، فَقَالَ: (وَالشَّاةُ إِنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ اللهُ) [رواه أحمد في المسند برقم /15039/].

وتبلغ الرحمة النبويّة مدى بعيداً عندما يكتب الله للإنسان الأجر إذا أكلت البهائم والطير من زرعه، أو ثمر غرسه، ولو كان ذلك بغير علمه أو رغبته.. فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْساً، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعاً، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ، أَوْ إِنْسَانٌ، أَوْ بَهِيمَةٌ إِلاّ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ) [رواه البخاريّ في كتاب المزارعة برقم /2152/، ومسلم في كتاب المساقاة برقم /2904/].

وأمّا رحمته صلى الله عليه وسلم بالجماد:

فلقد استبشر الكونُ كلّه بمولد النبيّ صلى الله عليه وسلم وبعثته، واستنارت برسالته جنبات الكون، وأحيا الله به الأرض بعد موت وخراب، وكيف لا.؟ وهو سيّد المرسلين، وقد أرسله الله رحمة للعالمين، وخصّه بدين الهدى والرحمة، فالحجر يسلّم عليه بالرسالة، والجذع حنّ إليه عندما فارقه، وجبل أحد اضطرب تحت قدميه، حتّى أمره بالسكون فسَكنَ..

عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنِّي لأَعْرِفُ حَجَراً بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ إِنِّي لأَعْرِفُهُ الآنَ) [رواه مسلم في كتاب الفضائل برقم /4222/].

وعَنْ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى خَيْبَرَ أَخْدُمُهُ، فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَاجِعاً، وَبَدَا لَهُ أُحُدٌ قَالَ: (هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ) ، ثُمَّ أَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى المَدِينَةِ قَالَ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا كَتَحْرِيمِ إِبْرَاهِيمَ مَكَّةَ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَمُدِّنَا) [رواه البخاريّ في كتاب الجهاد والسير برقم /2675/، ومسلم في كتاب الحجّ برقم /2428/].

وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: صَعِدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُحُداً، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ، فَرَجَفَ، وَقَالَ: (اسْكُنْ أُحُدُ، أَظُنُّهُ ضَرَبَهُ بِرِجْلِهِ، فَلَيْسَ عَلَيْكَ إِلاّ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ) [رواه البخاريّ في كتاب المناقب برقم /3423/].

وتكرّرت هذه الحادثة على جَبَلِ حِرَاءٍ، كما جاء في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ عَلَى جَبَلِ حِرَاءٍ فَتَحَرَّكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (اسْكُنْ حِرَاءُ، فَمَا عَلَيْكَ إِلاّ نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ، وَعَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنهم) [رواه مسلم في كتاب فضائل الصحابة برقم /4439/].

حنين الجذع للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: عَنْ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: " كَانَ المَسْجِدُ مَسْقُوفاً عَلَى جُذُوعٍ مِنْ نَخْلٍ، فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَطَبَ يَقُومُ إِلَى جِذْعٍ مِنْهَا، فَلَمَّا صُنِعَ لَهُ المِنْبَرُ، وَكَانَ عَلَيْهِ فَسَمِعْنَا لِذَلِكَ الجِذْعِ صَوْتاً كَصَوْتِ الْعِشَارِ، حَتَّى جَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا فَسَكَنَتْ " [رواه البخاريّ في كتاب المناقب برقم /3320/].

ومن مظاهر رحمته صلى الله عليه وسلم بالجماد والأشياء: نهيه صلى الله عليه وسلم عن سبّ الحُمَّى: عَن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى أُمِّ السَّائِبِ أَوْ أُمِّ المُسَيَّبِ فَقَالَ: مَا لَكِ يَا أُمَّ السَّائِبِ، أَوْ يَا أُمَّ المُسَيَّبِ تُزَفْزِفِينَ ؟ قَالَتْ: الحُمَّى، لا بَارَكَ اللهُ فِيهَا، فَقَالَ: لا تَسُبِّي الحُمَّى، فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ، كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ) [رواه مسلم في كتاب البرّ والصلة والآداب برقم /4672/].

ومن مظاهر رحمته صلى الله عليه وسلم بالجماد والأشياء: نهيه صلى الله عليه وسلم عن سبّ الدهر: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لا تَسُبُّوا الدَّهْرَ، فَإِنَّ اللهَ هُوَ الدَّهْرُ) [رواه مسلم في كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها برقم /4169/].

ومن مظاهر رحمته صلى الله عليه وسلم بالجماد والأشياء: نهيه صلى الله عليه وسلم عن سبّ الرِّيحِ: عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لا تَسُبُّوا الرِّيحَ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مَا تَكْرَهُونَ فَقُولُوا: " اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هَذِهِ الرِّيحِ، وَخَيْرِ مَا فِيهَا، وَخَيْرِ مَا أُمِرَتْ بِهِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ هَذِهِ الرِّيحِ، وَشَرِّ مَا فِيهَا، وَشَرِّ مَا أُمِرَتْ بِهِ) [رواه الترمذيّ في كتاب الفتن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برقم /2178/ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ].

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين