رحمته صلى الله عليه وسلم بأصحابه وأمّته وأهمّ مظاهرها (2)

من مظاهر رحمته صلى الله عليه وسلم خوفه على أمّته وشفقته: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَلا قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِبْرَاهِيمَ: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي...}[إبراهيم:36] الآيَةَ، وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلام: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم}[المائدة:118]، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: (اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي وَبَكَى، فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ فَسَلْهُ: مَا يُبْكِيكَ ؟ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلام فَسَأَلَهُ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا قَالَ، وَهُوَ أَعْلَمُ، فَقَالَ اللهُ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلا نَسُوءُكَ) [رواه مسلم في كتاب الإيمان برقم /301/].

وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَطِيباً بِمَوْعِظَةٍ فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تُحْشَرُونَ إِلَى اللهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً: {... كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِين}[الأنبياء:104] أَلا وَإِنَّ أَوَّلَ الخَلائِقِ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلام، أَلا وَإِنَّهُ سَيُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي، فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أَصْحَابِي ! فَيُقَالُ: إِنَّكَ لا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: {... وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد * إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم}[المائدة:117 ــ118]، قَالَ: فَيُقَالُ لِي: إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ) [رواه مسلم في كتاب الجنّة وصفة نعيمها وأهلها برقم /5104/]

وعَن أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قال: قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا أَصْبَحَ بِآيَةٍ، وَالآيَةُ: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم}[المائدة:118] [رواه النسائيّ في كتاب الافتتاح برقم/1000/وابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة والسنّة فيها برقم/1340/].

وعَنْ جَسْرَةَ بِنْتِ دَجَاجَةَ: أَنَّهَا انْطَلَقَتْ مُعْتَمِرَةً فَانْتَهَتْ إِلَى الرَّبَذَةِ، فَسَمِعَتْ أَبَا ذَرٍّ رضي الله عنه يَقُولُ: قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً مِنْ اللَّيَالِي فِي صَلاةِ الْعِشَاءِ، فَصَلَّى بِالْقَوْمِ، ثُمَّ تَخَلَّفَ أَصْحَابٌ لَهُ يُصَلُّونَ، فَلَمَّا رَأَى قِيَامَهُمْ وَتَخَلُّفَهُمْ انْصَرَفَ إِلَى رَحْلِهِ، فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمَ قَدْ أَخْلَوْا المَكَانَ رَجَعَ إِلَى مَكَانِهِ فَصَلَّى، فَجِئْتُ فَقُمْتُ خَلْفَهُ، فَأَوْمَأَ إِلَيَّ بِيَمِينِهِ، فَقُمْتُ عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ جَاءَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَقَامَ خَلْفِي وَخَلْفَهُ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ بِشِمَالِهِ، فَقَامَ عَنْ شِمَالِهِ، فَقُمْنَا ثَلاثَتُنَا، يُصَلِّي كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا بِنَفْسِهِ، وَيَتْلُو مِنْ الْقُرْآنِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَتْلُوَ، فَقَامَ بِآيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ يُرَدِّدُهَا، حَتَّى صَلَّى الْغَدَاةَ، فَبَعْدَ أَنْ أَصْبَحْنَا أَوْمَأْتُ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ: أَنْ سَلْهُ مَا أَرَادَ إِلَى مَا صَنَعَ الْبَارِحَةَ ؟ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ بِيَدِهِ: لا أَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ حَتَّى يُحَدِّثَ إِلَيَّ، فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، قُمْتَ بِآيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ، وَمَعَكَ الْقُرْآنُ، لَوْ فَعَلَ هَذَا بَعْضُنَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ، قَالَ: دَعَوْتُ لأُمَّتِي، قَالَ: فَمَاذَا أُجِبْتَ، أَوْ مَاذَا رُدَّ عَلَيْكَ، قَالَ: أُجِبْتُ بِالَّذِي لَوْ اطَّلَعَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْهُمْ طَلْعَةً تَرَكُوا الصَّلاةَ، قَالَ: أَفَلا أُبَشِّرُ النَّاسَ ؟ قَالَ: بَلَى، فَانْطَلَقْتُ مُعْنِقاً قَرِيباً مِنْ قَذْفَةٍ بِحَجَرٍ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّكَ إِنْ تَبْعَثْ إِلَى النَّاسِ بِهَذَا نَكَلُوا عَنْ الْعِبَادَةِ، فَنَادَى: أَنْ ارْجَعْ فَرَجَعَ، وَتِلْكَ الآيَةُ: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم}[المائدة:118] [رواه أحمد في المسند برقم /20520/].

وجاء في تفسير قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُون}[الأنعام:65]: عَن عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَقْبَلَ ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ الْعَالِيَةِ، حَتَّى إِذَا مَرَّ بِمَسْجِدِ بَنِي مُعَاوِيَةَ دَخَلَ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْنَا مَعَهُ، وَدَعَا رَبَّهُ طَوِيلاً، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَيْنَا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: سَأَلْتُ رَبِّي ثَلاثاً، فَأَعْطَانِي ثِنْتَيْنِ، وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً، سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا) [رواه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة برقم/5145/ وانظر تفسير ابن كثير 2/126/].

حفظه صلى الله عليه وسلم لمكانة أصحابه رضي الله عنهم وأقدارهم، ونهيه عن الإساءة إليهم:

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ بَيْنَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ شَيْءٌ فَسَبَّهُ خَالِدٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:

(لا تَسُبُّوا أَحَداً مِنْ أَصْحَابِي، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلا نَصِيفَهُ) [رواه البخاريّ في كتاب المناقب برقم /3397/، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة برقم /4611/ وهذا لفظه].

وعن ابن عبّاس رضي الله عنه قال: " بعث رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله عنه على سريّة، ومعه في السريّة عمّار بن ياسر رضي الله عنهما، قَالَ: فخَرَجوا حتّى أتوْا قريباً من القوم الذين يريدون أن يصبّحوهم نزلوا في بعض الليل قال: وجاء القوم النذير، فهربوا حيث بلغوا، فأقام رجل كان قد أسلم هو وأهل بيته، فأمر أهله فتحمّلوا، وقال: قفوا حتّى آتيكم، ثمّ جاء حتّى دخل على عمّار قال: يا أبا اليقظان إنّي قد أسلمت وأهل بيتي، فهل ذلك نافعي إن أنا أقمتُ ؟ فإنّ قومي قد هربوا حيث سمعوا بكم، قال: فقال له عمّار: فأقم فأنت آمن.

فانصرف الرجل هو وأهله، قال: فصبّح خالد القوم فوجدهم قد ذهبوا، فأخذ الرجل وأهله، فقال له عمّار: إنّه لا سبيل لك على الرجل قد أسلم. قال: وما أنت وذاك.؟ أتجير عليّ وأنا الأمير.؟! قال: نعم، أجير عليك وأنت الأمير.. إنّ الرجل قد آمن، ولو شاء لذهب كما ذهب أصحابه، فأمرته بالمقام لإسلامه، فتنازعا في ذلك حتّى تشاتما، فلمّا قدما المدينة اجتمعا عند رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فذكر عمّار الرجل، وما صنع، فأجاز رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أمان عمّار، ونهى يومئذ أن يجير أحد على الأمير، فتشاتما عند رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال خالد: يا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أيشتمني هذا العبد عندك.؟ أما والله لولاك ما شتمني، فقال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم: كفّ يا خالد عن عمّار، فإنّه من يبغض عمّاراً يبغضه الله عزّ وجلّ، ومن يلعن عمّاراً يلعنه الله عزّ وجلّ، ثمّ قام عمّار، واتّبعه خالد بن الوليد، حتّى أخذ بثوبه، فلم يزل يترضّاه حتّى رضي عنه..[ رواه ابن جرير في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ...}[النساء:59]، وابن عساكر].

ومن رحمته صلى الله عليه وسلم بأصحابه وأمّته: وعظهم وتذكيرهم، ووصيّتهم والعهد إليهم:

عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْماً بَعْدَ صَلاةِ الْغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ: (أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى اخْتِلافاً كَثِيراً، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ، فَإِنَّهَا ضَلالَةٌ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ) [رواه الترمذيّ في كتاب العلم عن رسول الله برقم/2600/، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وأبو داود في كتاب السنّة برقم /3991/ وأحمد في مسند الشاميّين برقم /16519/، وَالْعِرْبَاضُ بْنُ سَارِيَةَ يُكْنَى أَبَا نَجِيحٍ، وَهُوَ مِمَّنْ نَزَلَ فِيهِ: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ...}[التوبة:92].

وَزَادَ في رِوَاية أَبي داود: (وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ).

وزاد في رواية أحمد: قَالَ: (قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلاّ هَالِكٌ.. وَإِنْ عَبْداً حَبَشِيّاً، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، فَإِنَّمَا المُؤْمِنُ كَالْجَمَلِ الأَنِفِ حَيْثُمَا انْقِيدَ انْقَادَ).

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَيْهِ رِدَاءٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً، نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عُنُقِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ " [رواه البخاريّ في كتاب اللباس برقم /5362/، ومسلم في كتاب الزكاة برقم /1749/ وهذا لفظه].

وَفِي روايةٍ: ثُمَّ جَبَذَهُ إِلَيْهِ جَبْذَةً رَجَعَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَحْرِ الأَعْرَابِيِّ ".

وَفِي روايةٍ: فَجَاذَبَهُ حَتَّى انْشَقَّ الْبُرْدُ، وَحَتَّى بَقِيَتْ حَاشِيَتُهُ فِي عُنُقِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ".

ومن رحمته صلى الله عليه وسلم بأصحابه وأمّته تحذيرهم من الفتن، وبيان المخرج منها:

عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللهُ بِهَذَا الخَيْرِ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الخَيْرِ مِنْ شَرٍّ قَالَ: نَعَمْ قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ قَالَ: نَعَمْ وَفِيهِ دَخَنٌ قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ قَالَ: قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الخَيْرِ مِنْ شَرٍّ قَالَ: نَعَمْ دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ صِفْهُمْ لَنَا فَقَالَ: هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ قَالَ: تَلْزَمُ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلا إِمَامٌ قَالَ: فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ المَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ) [رواه البخاريّ في كتاب المناقب برقم /3338/ ومسلم في كتاب الإمارة برقم/3434/].

ومن رحمته صلى الله عليه وسلم بأصحابه وأمّته تحذيرهم من فتنة المسيح الدجّال، وهي أخطر الفتن وأعمّها:

عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ رضي الله عنه قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الدَّجَّالَ ذَاتَ غَدَاةٍ، فَخَفَّضَ فِيهِ وَرَفَّعَ، حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ، فَلَمَّا رُحْنَا إِلَيْهِ عَرَفَ ذَلِكَ فِينَا، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ ؟ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ ذَكَرْتَ الدَّجَّالَ غَدَاةً، فَخَفَّضْتَ فِيهِ وَرَفَّعْتَ، حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ، فَقَالَ: غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُنِي عَلَيْكُمْ، إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ، وَإِنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ، وَاللهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، إِنَّهُ شَابٌّ قَطَطٌ، عَيْنُهُ طَافِئَةٌ، كَأَنِّي أُشَبِّهُهُ بِعَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قَطَنٍ، فَمَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ، إِنَّهُ خَارِجٌ خَلَّةً بَيْنَ الشَّأْمِ وَالْعِرَاقِ، فَعَاثَ يَمِيناً، وَعَاثَ شِمَالاً، يَا عِبَادَ اللهِ فَاثْبُتُوا، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا لَبْثُهُ فِي الأَرْضِ ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ يَوْماً، يَوْمٌ كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، فَذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَسَنَةٍ، أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلاةُ يَوْمٍ ؟ قَالَ: لا اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا إِسْرَاعُهُ فِي الأَرْضِ ؟ قَالَ: كَالْغَيْثِ اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ، فَيَأْتِي عَلَى الْقَوْمِ فَيَدْعُوهُمْ، فَيُؤْمِنُونَ بِهِ، وَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ، فَيَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ، وَالأَرْضَ فَتُنْبِتُ، فَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ أَطْوَلَ مَا كَانَتْ ذُراً، وَأَسْبَغَهُ ضُرُوعاً، وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ، ثُمَّ يَأْتِي الْقَوْمَ فَيَدْعُوهُمْ، فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ، فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ، فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ، لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَيَمُرُّ بِالخَرِبَةِ فَيَقُولُ لَهَا: أَخْرِجِي كُنُوزَكِ، فَتَتْبَعُهُ كُنُوزُهَا كَيَعَاسِيبِ النَّحْلِ، ثُمَّ يَدْعُو رَجُلاّ مُمْتَلأً شَبَاباً، فَيَضْرِبُهُ بِالسَّيْفِ، فَيَقْطَعُهُ جَزْلَتَيْنِ رَمْيَةَ الْغَرَضِ، ثُمَّ يَدْعُوهُ فَيُقْبِلُ وَيَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ يَضْحَكُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللهُ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، فَيَنْزِلُ عِنْدَ المَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ، بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ، وَاضِعاً كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ، إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ قَطَرَ، وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَانٌ كَاللُّؤْلُؤِ، فَلا يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلاّ مَاتَ، وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ، فَيَطْلُبُهُ حَتَّى يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدٍّ فَيَقْتُلُهُ، ثُمَّ يَأْتِي عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قَوْمٌ، قَدْ عَصَمَهُمْ اللهُ مِنْهُ، فَيَمْسَحُ عَنْ وُجُوهِهِمْ، وَيُحَدِّثُهُمْ بِدَرَجَاتِهِمْ فِي الجَنَّةِ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ، إِذْ أَوْحَى اللهُ إِلَى عِيسَى: إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَاداً لِي، لا يَدَانِ لأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ، فَحَرِّزْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ، وَيَبْعَثُ اللهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ، فَيَمُرُّ أَوَائِلُهُمْ عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ، فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا، وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُونَ: لَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ مَرَّةً مَاءٌ، وَيُحْصَرُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ، حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الثَّوْرِ لأَحَدِهِمْ خَيْراً مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ لأَحَدِكُمْ الْيَوْمَ، فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ، فَيُرْسِلُ اللهُ عَلَيْهِمْ النَّغَفَ فِي رِقَابِهِمْ، فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى، كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ يَهْبِطُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى الأَرْضِ، فَلا يَجِدُونَ فِي الأَرْضِ مَوْضِعَ شِبْرٍ إِلاّ مَلأَهُ زَهَمُهُمْ وَنَتْنُهُمْ، فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى اللهِ، فَيُرْسِلُ اللهُ طَيْراً كَأَعْنَاقِ الْبُخْتِ، فَتَحْمِلُهُمْ فَتَطْرَحُهُمْ حَيْثُ شَاءَ اللهُ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللهُ مَطَراً لا يَكُنُّ مِنْهُ بَيْتُ مَدَرٍ وَلا وَبَرٍ، فَيَغْسِلُ الأَرْضَ حَتَّى يَتْرُكَهَا كَالزَّلَفَةِ، ثُمَّ يُقَالُ لِلأَرْضِ: أَنْبِتِي ثَمَرَتَكِ، وَرُدِّي بَرَكَتَكِ، فَيَوْمَئِذٍ تَأْكُلُ الْعِصَابَةُ مِنْ الرُّمَّانَةِ، وَيَسْتَظِلُّونَ بِقِحْفِهَا، وَيُبَارَكُ فِي الرِّسْلِ، حَتَّى أَنَّ اللِّقْحَةَ مِنْ الإِبِلِ لَتَكْفِي الْفِئَامَ مِنْ النَّاسِ، وَاللِّقْحَةَ مِنْ الْبَقَرِ لَتَكْفِي الْقَبِيلَةَ مِنْ النَّاسِ، وَاللِّقْحَةَ مِنْ الْغَنَمِ لَتَكْفِي الْفَخِذَ مِنْ النَّاسِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللهُ رِيحاً طَيِّبَةً، فَتَأْخُذُهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ، فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ، وَكُلِّ مُسْلِمٍ، وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ، يَتَهَارَجُونَ فِيهَا تَهَارُجَ الحُمُرِ، فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ).

وفِي وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ: لَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ مَرَّةً مَاءٌ: ثُمَّ يَسِيرُونَ حَتَّى يَنْتَهُوا إِلَى جَبَلِ الخَمَرِ وَهُوَ جَبَلُ بَيْتِ المَقْدِسِ فَيَقُولُونَ: لَقَدْ قَتَلْنَا مَنْ فِي الأَرْضِ، هَلُمَّ فَلْنَقْتُلْ مَنْ فِي السَّمَاءِ، فَيَرْمُونَ بِنُشَّابِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ، فَيَرُدُّ اللهُ عَلَيْهِمْ نُشَّابَهُمْ مَخْضُوبَةً دَماً).

وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حُجْرٍ: (فَإِنِّي قَدْ أَنْزَلْتُ عِبَاداً لِي، لا يَدَيْ لأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ) [رواه ومسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة برقم /5228/، وقد جمع المحدّث الشيخ محمّد أنور شاه الكشميريّ الهنديّ رحمه الله، الأحاديث الواردة في نزول المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام في آخر الزمان، وأثبت تواترها، وذكر أهمّ الأحاديث الواردة في الدجّال في كتابه النفيس: " التصريح بما تواتر في نزول المسيح "، وعلّق عليه أستاذنا العلاّمة الشيخ عبد الفتّاح أبو غدّة، رحمه الله].

ومن رحمته صلى الله عليه وسلم بأصحابه وأمّته: دعوتهم إلى التوسّط والاعتدال والاتّزان، ونهيهم عن الترهّب، والْغُلُوِّ فِي الدِّينِ، وحثّهم على التمسّك بسنّته واتّباع هديه:

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أُخْبِرُوا، كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ؟ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَداً، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلا أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلا أَتَزَوَّجُ أَبَداً، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ فَقَالَ: أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ للهِ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي) [رواه البخاريّ في كتاب النكاح برقم /4675/].

وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المَسْجِدَ، وَحَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ سَارِيَتَيْنِ، فَقَالَ: مَا هَذَا ؟ قَالُوا: لِزَيْنَبَ، تُصَلِّي فَإِذَا كَسِلَتْ، أَوْ فَتَرَتْ أَمْسَكَتْ بِهِ، فَقَالَ: حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ فَإِذَا كَسِلَ أَوْ فَتَرَ قَعَدَ) [رواه البخاريّ في كتاب الجمعة برقم/1082/ ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها برقم/1306/].

وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: صَنَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمْراً فَتَرَخَّصَ فِيهِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ نَاساً مِنْ أَصْحَابِهِ فَكَأَنَّهُمْ كَرِهُوهُ، وَتَنَزَّهُوا عَنْهُ، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَقَامَ خَطِيباً فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: (مَا بَالُ رِجَالٍ بَلَغَهُمْ عَنِّي أَمْرٌ تَرَخَّصْتُ فِيهِ، فَكَرِهُوهُ وَتَنَزَّهُوا عَنْهُ.؟! فَوَاللهِ لأَنَا أَعْلَمُهُمْ بِاللهِ، وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً) [رواه البخاريّ في كتاب الأدب برقم /5636/، ومسلم في كتاب الفضائل برقم /4345/].

وعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَدَاةَ الْعَقَبَةِ، وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ: هَاتِ، الْقُطْ لِي، فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ، هُنَّ حَصَى الخَذْفِ، فَلَمَّا وَضَعْتُهُنَّ فِي يَدِهِ قَالَ: بِأَمْثَالِ هَؤُلاءِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ) [رواه النسائيّ في كتاب مناسك الحجّ برقم /3007/].

وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِمَاسَةَ قَالَ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ أَسْأَلُهَا عَنْ شَيْءٍ فَقَالَتْ: مِمَّنْ أَنْتَ فَقُلْتُ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ فَقَالَتْ: كَيْفَ كَانَ صَاحِبُكُمْ لَكُمْ فِي غَزَاتِكُمْ هَذِهِ ؟ فَقَالَ: مَا نَقَمْنَا مِنْهُ شَيْئاً، إِنْ كَانَ لَيَمُوتُ لِلرَّجُلِ مِنَّا الْبَعِيرُ فَيُعْطِيهِ الْبَعِيرَ، وَالْعَبْدُ فَيُعْطِيهِ الْعَبْدَ، وَيَحْتَاجُ إِلَى النَّفَقَةِ فَيُعْطِيهِ النَّفَقَةَ، فَقَالَتْ: أَمَا إِنَّهُ لا يَمْنَعُنِي الَّذِي فَعَلَ فِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَخِي، أَنْ أُخْبِرَكَ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي بَيْتِي هَذَا: (اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئاً فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئاً فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ) [رواه مسلم في كتاب الإمارة برقم/3407/].

ومن رحمته صلى الله عليه وسلم بأصحابه وأمّته: خشيته أن يفرض عليهم من العمل ما لا يطيقون:

عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: كَانَ النَّاسُ يُصَلُّونَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ بِاللَّيْلِ أَوْزَاعاً، يَكُونُ مَعَ الرَّجُلِ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ، فَيَكُونُ مَعَهُ النَّفَرُ الخَمْسَةُ أَوْ السِّتَّةُ، أَوْ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرُ، فَيُصَلُّونَ بِصَلاتِهِ، قَالَتْ: فَأَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً مِنْ ذَلِكَ أَنْ أَنْصِبَ لَهُ حَصِيراً عَلَى بَابِ حُجْرَتِي، فَفَعَلْتُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ أَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ الآخِرَةَ، قَالَتْ فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ مَنْ فِي المَسْجِدِ، فَصَلَّى بِهِمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلاً طَوِيلاً، ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَدَخَلَ وَتَرَكَ الحَصِيرَ عَلَى حَالِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ تَحَدَّثُوا بِصَلاةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنْ كَانَ مَعَهُ فِي المَسْجِدِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، قَالَتْ: وَأَمْسَى الْمَسْجِدُ رَاجّاً بِالنَّاسِ، فَصَلَّى بِهِمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْعِشَاءَ الآخِرَةَ، ثُمَّ دَخَلَ بَيْتَهُ، وَثَبَتَ النَّاسُ قَالَتْ: فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَا شَأْنُ النَّاسِ يَا عَائِشَةُ ؟ قَالَتْ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ سَمِعَ النَّاسُ بِصَلاتِكَ الْبَارِحَةَ بِمَنْ كَانَ فِي المَسْجِدِ فَحَشَدُوا لِذَلِكَ، لِتُصَلِّيَ بِهِمْ، قَالَتْ: فَقَالَ: اطْوِ عَنَّا حَصِيرَكِ يَا عَائِشَةُ، قَالَتْ: فَفَعَلْتُ، وَبَاتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَيْرَ غَافِلٍ، وَثَبَتَ النَّاسُ مَكَانَهُمْ، حَتَّى خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الصُّبْحِ، فَقَالَتْ: فَقَالَ: (أَيُّهَا النَّاسُ أَمَا وَاللهِ مَا بِتُّ وَالحَمْدُ للهِ لَيْلَتِي هَذِهِ غَافِلاً، وَمَا خَفِيَ عَلَيَّ مَكَانُكُمْ، وَلَكِنِّي تَخَوَّفْتُ أَنْ يُفْتَرَضَ عَلَيْكُمْ، فَاكْلَفُوا مِنْ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللهَ لا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا)، قَالَ: وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ: إِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ) [رواه أحمد في المسند برقم/25103/].

ومن رحمته صلى الله عليه وسلم بالناس: أمره بالأخذ بظواهرهم، وترك سرائرهم إلى الله تعالى:

عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَرِيَّةٍ فَصَبَّحْنَا الحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ فَأَدْرَكْتُ رَجُلاً فَقَالَ: لا إِلَهَ إِلاّ اللهُ، فَطَعَنْتُهُ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَقَالَ: لا إِلَهَ إِلاّ اللهُ، وَقَتَلْتَهُ ؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفاً مِنْ السِّلاحِ، قَالَ: أَفَلا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ، حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لا ؟ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ، حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ) [رواه البخاريّ في كتاب المغازي برقم /3935/، ومسلم في كتاب الإيمان برقم /140/ وهذا لفظه].

ويبلغ برّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بأصحابه ورفقه بهم أقصى مداه إذ يعامل أولئك المنافقين المراوغين، المخادعين المتآمرين، الذين هم في ظاهر الأمر من المسلمين، ولكنّهم في حقيقتهم من الكافرين المكذّبين..

وإنّ الموقف من هؤلاء المراوغين المذبذبين، أصحاب " الوَلاء المزدوج " من أصعب الأمور التي تتعرّض لها الدعوة إلى اللهِ تعالى، ويتعرّض لها الدعاة.. لأنّهم أخطر على المجتمع المسلم من الكافرين، إذ هم مدسوسون في المجتمع، منبثّون بين أبنائه، ويعدّون جزءاً من كيانه، ومع ذلك فولاؤهم لمن هم خارج بنيانه.. ومع ذلك فإنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم يترفّق بهم، ويداريهم، ويحسن صحبتهم، لعلّهم يتوبون، وإلى الحقّ والهدى يئوبون، ولعلّ تلك المعاملة الكريمة تغسل أمراض قلوبهم، وتستلّ سخائم أنفسهم، ويسنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك لقادة الأمّة والدعاة من بعده سنّةً لا تبديل لها، ولا انحراف عنها.

عَن جَابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ رضي الله عنه يَقُولُ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزوَةٍ، قَالَ: يَرَونَ أَنَّهَا غَزوَةُ بَنِي المُصطَلِقِ [بنو المصطلق بطن من خزاعة، وكانت الغزوة في شعبان من السنة الخامسة للهجرة، وسببها أنّ الحارث بن أبي ضرار الخزاعيّ كان قد جمع الجموع لمحاربة النبيّ صلى الله عليه وسلم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج معه كثير من المنافقين، لم يخرجوا في غزوة قطّ مثلها، انظر كتاب: " محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم " لمحمّد رضا ص/221/]، فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنَ الأَنصَارِ، فَقَالَ الأَنصَارِيُّ: يَا لَلأَنصَارِ، وَقَالَ المُهَاجِرِيُّ: يَا لَلمُهَاجِرِينَ، فَسَمِعَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا بَالُ دَعوَى الجَاهِلِيَّةِ !؟ فَقِيلَ: رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ كَسَعَ رَجُلاً مِنَ الأَنصَارِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنتِنَةٌ، قَالَ جَابِرٌ رضي الله عنه: وَكَانَ المُهَاجِرُونَ حِينَ قَدِمُوا المَدِينَةَ أَقَلَّ مِنَ الأَنصَارِ، ثُمَّ إِنَّ المُهَاجِرِينَ كَثُرُوا، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ فَقَالَ: فَعَلُوهَا.! وَاللهِ لَئِن رَجَعنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنهَا الأَذَلَّ، فَسَمِعَ ذَلِكَ عُمَرُ رضي الله عنه، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ دَعنِي أَضرِبُ عُنُقَ هَذَا المُنَافِقِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (يَا عُمَرُ دَعهُ، لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّداً يَقتُلُ أَصحَابَهُ) [رواه أحمد في المسند /14688/، وانظر تهذيب سيرة ابن هشام عبد السلام هارون ص/187/، وحياة الصحابة 1/473/].

وفي سيرةِ ابن هشام: قَالَ عَبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ: " أوقد فعلوها.؟! قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، واللهِ ما أعدّنا وجَلابيب قريش [لقب كان المشركون يلقّبون به من أسلم من المهاجرين] إلاّ كما قال الأول: " سمّن كلبك يأكلك " أما وَاللهِ لَئِن رَجَعنَا إِلَى المَدِينَةِ.. وجاء عبد الله بن عبد الله بن أبيّ ـ ولد المنافق، وكان مؤمناً صادقاً ـ إلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بعد أن رجعوا إلى المدينة فقال: إنّه بلغني أنّك تريد قتل أبي، فيما بلغَك عَنْه، فإن كنت لابدّ فاعلاً، فمرني فأنا أحمل إِلَيك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها منْ رجل أبرّ بوالده منّي، وَإِنّي أخشى أن تأمر غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس، فأقتله، فأقتل مؤمناً بكافر، فأدخل النار.. فقال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (بل نَترفّق به، ونحسِنُ صُحبتَه ما بقيَ معَنا).

وجعل بعد ذلك إذا حدّث عبد الله بن أبي بالحديث من أقاويله وفتنه، كان قومه هم الذين يعاتبونه، ويعنّفونه، فقال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطّاب رضي الله عنه: (كيفَ ترى يا عمر.؟ أما والله لو قتلته يوم قلت لي: اقتله، لأرعدت له آنف، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته)، فقال عمر رضي الله عنه: " قد واللهِ علمتُ لأمرُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أعظم بركة مِنْ أمرِي ".

ألا إنّها عظمة الأخلاق النبويّة، وحكمة وحي السماء، وسياسة الدعوة الراشدة، وبعد النظر، ونفاذ البصيرة.. فأين أولئك الذين يزرعون الفتن يميناً وشمالاً بين إخوانهم المؤمنين، ويشيعون التهم والأحكام الجائرة، ويصنّفون الناس أصنافاً شتّى، بحجّة الغيرة على الإسلام، والدفاع عن حرماته؟!

أين هؤلاء الذينَ يعاملونَ إخوانهم المؤمنين بأسوأَ ممّا يُعامَلُ به المنافقون المخادعون.؟! لأسباب باطلة، ومبرّرات كاذبة، ويناصبونهم العداء والشقاق أكثر ممّا يرى منهم المنافقون الوالغون في تمزيق صفوف الأمّة وخلخلة بنيانها..

إنّ على هؤلاء أن يصحّحوا فهمهم لدينهم، ويحاسبوا أنفسهم على اندفاعاتهم الرعناء، التي يحسبونها غيرة على دين الله، ودين الله منها براء، وهي ليست إلاّ انتصاراً لأهواء النفس وعللها، ودوافعها العليلة المريبة.. أين هؤلاء من هدي المصطفى الكريم، وخلقه العظيم.؟!

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله الكرام وصحبه الأخيار.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين