رحمة النبيّ صلى الله عليه وسلم بالملائكة الكرام عليهم السلام

كما نفهم من قول الله تعالى: {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِين}[الفاتحة:2]، أنّ الله جلّ وعلا ربّ كلّ شيء فِي هذا الوجود ومليكه، فكذلك علينا أن نفهم من قول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين}[الأنبياء:107]، شمولَ الرحمة بِالنبيِّ صلى الله عليه وسلم لكلّ شيء فِي هذا الوجودِ: الإنس والجنّ والملائكة، والحيوان والنبات والجماد، ولا عجب في ذلك ولا غرابة، فالله تعالى يختصّ برحمته من يشاء، وَالله ذو الفضل العظيم.

قال أبو بكر بن طاهر رحمه الله تعالى: زيّن الله مُحَمّداً صلى الله عليه وسلم بزينة الرحمة، فكان صلى الله عليه وسلم كلّه رحمة، وجميع شمائله وصفاته رحمة على الخلق، وحياته صلى الله عليه وسلم رحمة، ومماته رحمة، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( حياتي خير لكم، ومماتي خير لكم ) [ذكره العجلوني في كشف الخفا 1/442 وعزاه للديلمي عن أنس وعزاه في الجامع الصغير للحارث عن أنس، وفيه عند ابن سعد عن بكر بن عبد الله مرسلا بلفظ حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم فإذا مت كانت وفاتي خيرا لكم تعرض على أعمالكم فإن رأيت خيرا حمدت الله وإن رأيت شرا استغفرت لكم].

وكما قال صلى الله عليه وسلم: ( إذا أراد الله رحمة بأمة قبض نبيّها قبلها، فجعله لها فرطاً وسلفاً ) [الفرط بفتح الهاء والراء: هو الذي يتقدم الواردين فيهيئ لهم ما يحتاجون إليه].

وروى الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنما أنا رحمة مُهداة ) [أخرجه البيهقي في دلائل النبوة].

ومن العالمين الذين تعمّهم رحمة الله بالنبيّ صلى الله عليه وسلم: الملائكة الكرام عليهم السلام، يقول الله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[الفرقان:1]، فالعالمون في هذه الآية تشمل الملائكة كما تشمل الإنس والجنّ، وقد أجمع المفسرون على أنّ قوله تعالى: {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِين}[الفاتحة:2]، شامل لهؤلاء الثلاثة، فكذلك هذا، والأصل بقاء اللفظ على عمومه حتّى يدلّ الدليل على إخراج شيء منه، ولم يدلّ هنا دليل على إخراج الملائكة، ولا سبيل إلى وجوده، لا من القرآن، ولا من الحديث، وقد نُوزع مَن ادّعى الإجماع على عدم إرساله إليهم، فمن أين تخصيصه بالإنس والجنّ فقط، دون الملائكة ؟ وكذا قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين}[الأنبياء:107]، فإنّه شامل للملائكة، ومما يدلّ على ذلك قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُون}[الأنبياء:26]، يعني الملائكة: {لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُون * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُون * وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِين}[الأنبياء:27 ــ29].

كذلك روى ابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله تعالى: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ } قال: يعني الملائكة.

وروى ابن المنذر نحوه عن ابن جريج رضي الله عنه، وفي حديث ابن عباس فهذه الآية انذار للملائكة على لسان النبيّ صلى الله عليه وسلم في القرآن الذي أنزل عليه، وقد قال تعالى: {... وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ... }[الأنعام:19]، قال الشيخ: ولم أقف إلى الآن على إنذار، وقع في القرآن للملائكة سوى هذه الآية.

والحكمة في ذلك واضحة، لأنّ غالب المعاصي راجعة إلى البطن والفرج، وذلك يمتنع عليهم من حيث الخلقة، فاستغنى عن إنذارهم فيه، ولما وقع من إبليس، وكان منهم على ما رجحه غير واحد، منهم النوويّ أو فيهم نظير هذه المعصية أنذروا فيها [قال: وقد أفرد الشيخ رحمه الله تعالى الكلام على هذه المسألة مؤلفاً سماه ( تزيين الارائك في ارسال النبي إلى الملائك ) بسط فيه الأدلّة، فليراجعه من أراده، انظر سبل الهدى والرشاد 10/305/].

أقول: وينبغي أن يلحظ أنّ إرساله صلى الله عليه وسلم للملائكة إنّما هو إرسال تشريف، لا تكليف، لأنّهم ليسوا من أهل التكليف، بخلاف الجنّ.

وقد رحم الله تعالى الملائكة وشرّفهم بنبيّه صلى الله عليه وسلم بأنواع من مظاهر الرحمة والتشريف؛ فمن ذلك أنّ الله رحمهم وشرّفهم بالصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم، دائماً سرمداً إلى قيام الساعة، وزيارته والسلام عليه ومجالسته، وسماع كلامه الشريف، وسماع القرآن الكريم من فمه الشريف صلى الله عليه وسلم، وصحبته في الليل والنهار، ومرافقته وخدمته، والحفّ بمجالسه وحجراته، والقتال بين يديه ونصرته، واستئذانه في إنفاذ ما يريد بعدوّه، فلاشكّ أنّ كلّ من يجالس نبيّ الرحمة صلى الله عليه وسلم مؤمناً به، ويتشرّف برؤية أنواره، تعمّه رحمة الله تعالى وبركاته، وفضله وتكرمته، وكلّ ذلك ثابت في النصوص الشرعيّة، بما لا يتّسع المقام لبسطه وتفصيله..

وفي حديث الإسراء والمعراج في الصحيحين وغيرهما، وفي روايات الحديث المتعدّدة نلحظ حفاوة الملائكة الكرام عليهم السلام بالنبيّ صلى الله عليه وسلم في الملأ الأعلى، وترحيبهم به، وفرحهم بلقائه، بما يكشف لنا عن طرفٍ من فضل النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورحمته بالملائكة، وعظيم مقامه عند ربّه..

ومن رحمة الله تعالى للملائكة بنبيّه صلى الله عليه وسلم: ما شرع الله من الأحكام الشرعيّة: التي فيها الإيمانُ بهم، والأدبُ معهم، وتعظيم مقامهم، ومعرفة وظائفهم.. وأدلّة ذلك من النصوص الشرعيّة مشهورة مستفيضة..

وكانت الملائكة تناجي النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وتقترب منه، ويراها، كما جاء في أحاديث صحاح كثيرة، منها الحديث عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ، وَأَسْمَعُ مَا لا تَسْمَعُونَ، أَطَّتِ السَّمَاءُ ـ أي ظهر منها صوت ـ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلاّ وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِداً للهِ ) [رواه الترمذي في كتاب الزهد /2234/، ومثله ابن ماجه /4180/، وأحمد في مسند الأنصار /20539/].

وقد علّمنا النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم تعظيم الملائكة، والأدب معهم، وأن نبتعد عن ما يؤذيهم، فقال صلى الله عليه وسلم: ( مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الْبَقْلَةِ الثُّومِ، وقَالَ مَرَّةً: ( مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ فَلا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فَإِنَّ المَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ ) [رواه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة برقم /876/ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ].

وفي رواية: ( مَنْ أَكَلَ ثُوماً أَوْ بَصَلاً فَلْيَعْتَزِلْنَا، أَوْ قَالَ فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا، وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ )، وَأُتِيَ صلى الله عليه وسلم مرّة بِقِدْرٍ فِيهِ خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ، فَوَجَدَ لَهَا رِيحاً، فَسَأَلَ فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنْ الْبُقُولِ، فَقَالَ: قَرِّبُوهَا إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ كَانَ مَعَهُ، فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا قَالَ: ( كُلْ فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لا تُنَاجِي ) [رواه البخاري في كتاب الصلاة عن جابر بن عبد الله برقم /390/].

وكان صلى الله عليه وسلم يحثّ أصحابه رضي الله عنهم على أن يستحيوا من الملائكة، كما في الحديث عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: رَأَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَاساً رُكْبَاناً عَلَى دَوَابِّهِمْ فِي جِنَازَةٍ، فَقَالَ: ( أَلا تَسْتَحْيُونَ أَنَّ مَلائِكَةَ اللهِ يَمْشُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ وَأَنْتُمْ رُكْبَانٌ.؟! ) [رواه ابن ماجة في كتاب الجنائز برقم /1469/].

كما علّم صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم أن يصفّوا في الصلاة كَمَا تَصُفُّ المَلائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا، ففي الحديث الشريف: ( أَلا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ المَلائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا ؟ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ وَكَيْفَ تَصُفُّ المَلائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا ؟ قَالَ: ( يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الأُوَلَ، وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ ) [رواه مسلم في كتاب الصلاة 651، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه].

وإذا كان تكريم الملائكة للمؤمنين في الآخرة بأمر الله تعالى لا يقدّر ولا يوصف، فكيف بتكريم الملائكة للنبيّ صلى الله عليه وسلم.؟! وهو من يُتقرَّب إلى الله تعالى بمحبّته ونصرته، والصلاة عليه وتعظيمه.!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين