رحلة الحج(2)

يوم السبت 22 من ذي القعدة سنة 1439هـ

وحان وقت صلاة الفجر وعددُنا نحن الحجاج كبير جدا تضيق فسحة مؤخرة الطائرة عن أداء الصلاة فيها جماعة، أو أن نصلي فيها فرادى قائمين في قنوت متناوبين في هذا الوقت القصير، واستشارني الشيخ مجاهد علي في المسألة، واتفقنا على أن نصلي في مقاعدنا إيماءً متجهين إلى القبلة، فإن من سنن الإسلام في الأمور الطارئة والأوضاع المكرهة التخفيف والتيسير، لا التشديد والتعسير، وصليت على مقعدي مستشعرا لذة عجيبة لا ينالها غير المصلين، ومقارنا بين حالتي في الصلاة وخارجها، والمسافة بينهما شاسعة، والفجوة بين الحالين واسعة، فإذا كان مثلي في كدورة نفسه يدرك هذا السمو الروحي فكيف بمن نقا قلبه وصفت سريرته، وشكرتُ الله عز وجل على نعمة الإسلام، وحمدته على أن هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

وأشرق علينا قرص الشمس من النافذة، رانية إليها عيوننا وقد بهرنا ساطع جمالها وغلبنا بديع حسنها، فما رأيت الشمس في بريطانيا تطلع صافية مثل هذا الصفاء، وكل آية في الكون تدل على عظم قدرة الله جل وعلا، وتقربنا إليه تقريبا.

وهبطت بنا الطائرة على مطار جدة في الساعة السادسة إلا الثلث صباحا، وانتهينا من الإجراءات بسرعة كذَّبت ظنوننا وتقديراتنا، وخرجنا من المطار بعد الساعة السابعة، وصرفنا النقود، واشترينا شرائح الجوالات، واستغرق ذلك وقتا طويلا، فلم نتمكن من امتطاء حافلتنا إلا بعد الساعة الثامنة، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون، وما أسعدني أن أكون في ركب يؤمون دارا تفردت بشخص المصطفى صلى الله عليه وسلم، هاوين لها هوى، ونار الشوق تضطرم بين جوانحهم:

دار ُ الحبيب ِ أحقُّ أن تهواها =و تَحنُّ من طربٍ الى ذِكراها

وذكر حبيب رب العالمين، وأشرف المرسلين، وخاتم النبيين وسيد ولد آدم أجمعين يذكي الشوق في كل خاطر ولو أنه في قلب صماء جلمد، وسعادتي هذه تغبطني عليها نفسي، إذ خرجت من بلاد يضل فيها النجم سبيله إلى بلد ترابه من رشد وهدى، متبرئا من الفلاسفة والحكماء الذين لم تخرجهم عقولهم من ظلمات الكفر والشرك بل ورطتهم فيها توريطا، إلى مدينة دليل العقول والألباب الذي تبرم بجميع أنواع الكفر والشرك موجها وجهه إلى الإيمان بفاطر السموات والأرض، ومخلِّفا ورائي الضالين الغواة الذين حفت النكباء بيوتهم يطيعون أمر الهوى كأنه على دهرهم سلطان يجور ويعتدي، ومتبعا الهادي الذي يهدي قومه في ظلمات الليل والنهار إلى فجر من النور ساطع، فإنه بنور الله، لا بنور الخلق، يهدي ويهتدي، ومتوليا عن الملوك والقادة الذين اتخذوا الدنيا الضيقة قبلتهم إلى النبي الذي أعلن صارخًا بثباته على المحجة غير حائد عنه قيد شعرة ولو وضعوا الشمس في يمينه والقمر في يساره، ومتنكرا لثرثرة متصرفي الكلام في الغرب وهذيانهم، ومؤثرا حديثَ من ألهمه الله الكلمات الجامعة، والجيّد النافع من قِيل الرجل، وإن قل، يغلب على رديئه الضار وإن كثر، وفارًّا من أولئك الذين ملأوا البر والبحر نجاسات تركن الماء ليس بطاهر، والترب ليس يطيب للمتيمم، ومعتصما بالعفيف النزيه الذي ضاهى الملائكة المقربين، ودنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى، ألا لا يتمنين ذروته متمن، ولا يتوهمن بلوغ شأوه متوهم، فتلك قمة شامخة تستعصي على ذوي الأماني والأحلام، وتأبى على راكبي الأخيلة والأوهام، وفي هذه الكلمات الموجزات جمل يدللن على الغرض الذي رميت إليه غير مستوفيات له استيفاء.

ووصلنا إلى مركز استقبال الحجاج الساعة والنصف، وتمت الإجراءات خلال عشر دقائق، وواجهتنا مشارف المدينة وسرت فينا موجة من الغبطة والسرور، ودخلنا في فندقنا المسمى شذا المدينة الواقع عند باب الملك فهد قبل الساعة الثانية، وقدم أهل الفندق إلينا كعكا وشرابا مكرمين إيانا إكراما، وسرعان ما أوصلونا إلى غرفنا المحجوزة، فحططنا فيها أمتعتنا وأغراضنا، ولم أشعر بتعب السفر وجلست للكتابة في خفة ونشاط كأني في رُبَّان الحداثة وجُنّ الشباب.

خرجنا في الساعة الثالثة والنصف وصلينا العصر في المسجد النبوي الشريف والجين من باب الملك فهد، وتقدمنا حتى وجدنا فسحة في البناء العثماني، وشربت ماء زمزم كأسين، وصليت ركعتين للسنة، وانتظرنا حتى أقيمت الجماعة، واشترينا بعد الصلاة أطعمة من مطعم قريب من باب الملك فهد، وتغدينا بها في غرفتنا، واسترحنا قليلا.

واتصل بي قبل صلاة المغرب فضيلة الشيخ خالد مرغوب واتفقنا على اللقاء بعد الصلاة عند دوار الساعة بباب الملك فهد، والشيخ سيسافر بعد يومين إلى أمريكا، وسمع كلانا من صاحبه المسلسل بالأولية وتدبجنا.

وهو الشيخ خالد بن مرغوب بن محمد أمين الهندي، مقيم في المدينة المنورة، أستاذ في الجامعة الإسلامية في كلية الحديث الشريف، ومن شيوخه: الشيخ عمر بن محمد فلاته، وشيخنا محمد عاشق إلهي البرني، وشيخنا عبد الله بن عبد العزيز العقيل، والشيخ أحمد قلاش الحلبي، وشيخنا أحمد علي السورتي، الشيخ محمد ياسين الفاداني، والشيخ عبد الله الصديق الغماري، والشيخ صفي الرحمن المباركفوري، وشيخنا الإمام أبو الحسن علي الندوي، وشيخنا المحدث محمد يونس الجونفوري، ومن أعماله التأليفية والتحقيقية: الحافظ عبد الغني المقدسي محدثا، وتعقبات ابن التركماني على البيهقي كتاب الصلاة، وتنشيط العامل بذكر الثابت من الفضائل تهذيب لفضائل الأعمال للضياء المقدسي، وأشياء أخرى. 

وشرفني بعد العشاء الأخ الكريم أحمد عاشور بالزيارة، ولن أصبر إلا أن أنعم بالحديث عنه تبركا به وتزيينا لرحلتي بذكره، فهو الشيخ المسند الفاضل أحمد بن عبد الملك عاشور المكي المدني، من بيت أصيل في العلم والشرف والمجد والسؤدد، جواهره كجوهر البدر لا يدنو من الدنس، كنف ملئ علما وفضلا وصلاحا، تقابله فتشفيك رؤيته شفاء، أو تجالسه فتجعلك جلسة واحدة تحبه، ويُعْلِمك بجنى الشجرةِ الواحدةُ من ثمرها، ويدلك على خزامى الأرض النفحةُ من رائحتها، صحب شيوخا صالحين، وعلماء أجلة، لهم أذواق مختلفة ومشارب شتى، وحالفه من الله توفيق، ونال من الحجى حظا زواه الدهر عن أدعيائه، ورزق شعبة من الفهم، فاستقام على الطريق الوسط معتدلا، ولم يغال مغالاة ولا قصر تقصيرا، لا يوهمنك يا أحمد أن الإسراف في القول لي خلق، أو أنني بالمدائح دائم الأنس، عساك تعذرني إن ساءك كلامي فإن مثلي بهجران اللوم جدير.

وركبت سيارة أحمد وأخذني إلى مطعم عربي نظيف تعشينا فيه نتحدث عن شؤون العلم والحديث وأوضاع الإسلام والمسلمين في بلاد الغرب، ودعانا الشيخ خالد مرغوب لتناول الشأي في منزله، فلبينا دعوته ولقينا هناك شبابا من أهل العلم، وسألني الشيخ أن أسمعهم الأولية، ففعلت، ولم أتمكن من الرجوع إلى الفندق إلا متأخرا قبيل الساعة الواحدة ليلا، وأهدى إلي أخونا أحمد عاشور بعض الكتب:

نسخة قديمة للموطأ:

منها صورة لنسخة موطأ الإمام مالك بن أنس برواية يحيى بن يحيى الليثي عنه، كتبها علي بن عبد الله بن محمد الأموي المالقي الشهير بالمرسي بمالقة سنة 667هـ وقوبلت على أصول نفيسة، وسمعت على أعلام الأندلس، قدم لها وعرف بها شيخنا نظام محمد صالح اليعقوبي، وطبعت في دار الحديث الكتانية، بطنجة من بلاد المغرب، يقول الشيخ نظام في مقدمته: "وقفت في خلال زيارتي للمملكة المغربية بمكتبة مؤسسة علال الفاسي بمدينة الرباط على أصل أندلسي نفيس من كتاب الموطأ للإمام مالك بن أنس الأصبحي رحمه الله تعالى، وقد تأكلت أطرافه وبللت أوراقه، فبدأ يتلاشى، فأحببت إنقاذ ما يمكن إنقاذه بتصويره طبق الأصل، وتوفيره للباحثين والمطلعين وطلبة الحديث النبوي الشريف ضمن مصورات مكتبتنا".

من أقدم نسخ صحيح مسلم:

ومنها صورة صحيح مسلم بخط الحافظ ابن الطرقي الأصبهاني، سمعه سنة 486هـ، طبعت بعناية الأخ العالم محمد بن عبد الله الشعار، قدم لها الشيخ نظام اليعقوبي، يقول وهو يذكر قصتها: "...أن هذه النسخة التي نقدم لها اليوم من صحيح الإمام أبي الحسين القشيري من أقدم نسخ الصحيح الكاملة فيما علمنا واطلعنا عليه حتى الآن، إلا أنها كتب عليها الانشطار شطرين والقسمة على قسمين، القسم الأول حفظ بمكتبة خدا بخش بالهند، والقسم الثاني حفظ بمكتبة مصطفلا عاطف أفندي بإستانبول".

"وقد تيسر لنا بحمد الله تصوير القسم الثاني من إستانبول بكل سهولة ويسر، ولما علمنا بالقسم الأول من نفس النسخة والذي هو بمكتبة خدا بخش حاولنا الحصول عليه، وراسلنا المكتبة فلم نتلق ردا، ووسطنا الوسائط، وبعثنا المندوبين عنا إلى المكتبة فلم نتلق من المسؤولين تجاوبا ولا ترحابا".

"فقمنا بتشفيع علماء الهند لطلب النسخة، فكان الجواب بالاعتذار، وعلم الله أنا لم ندخر وساطة أو جاهًا من أجل الحصول على هذه النسخة الهندية، وطالت الأيام ونحن ننتظر رد المكتبة، وأقصى ما حصلنا عليه قطع مصورة بالأبيض والأسود من أول وآخر النسخة لا تشفي الغليل ولا تروي العليل، ولا تليق ولا تصلح للإخراج الطباعي".

"ثم وصلتنا حوالي خمسين ورقة بشفاعة بعض علماء الهند الأكارم، فإذا بالتصوير رديء جدا، والنسخة مهملة غير معتنى بها، ولم يعرف القائمون عليها قيمة النسخة، فرممت بشريط لاصق عادي، مما أفسد الكتاب وأتلف الأوراق، ولا يمكن نزع اللاصق الآن، وعند التصوير ينعكس الضوء على الشريط، والله المستعان".

"وعند ذلك قررنا البدء بإصدار هذا المشروع منجَّما، وتكون هذه النسخة النفيسة فاتحته، مع تقديم عذرنا وإبداء استعدادنا لطباعة النصف الأول إن يسر المولى الكريم الحصول عليه".

ومما كتبه المعتني بها: "يثبت ابن الطرقي الأبواب في نسخته داخل متن الصحيح، بينما نجد أن أحدهم يثبت أبوابا أخرى زائدة على الموجود ويكتبها في الهوامش، ونجد أيضًا في الهوامش شرحًا لبعض الألفاظ، بعضها قديم وبعضها متأخر الكتابة مستقاة من القاضي عياض والإمام النووي والقاموس للفيروزآبادي وغيرهم".

صورة طبعة العامرة لصحيح مسلم:

ومنها صورة طبعة العامرة لصحيح مسلم في مجلد طبعت سنة 1434هـ بعناية محمد بن إبراهيم بن رشود التميمي، يقول في مقدمته: "وقد قام جماعة من العلماء - رحمهم الله تعالى وغفر لهم - بطبعه مقابلا على خمس نسخ خطية ومحشى بفوائد كثيرة طيبة، مع ضبط متن الكتاب ضبطًا دقيقا، وهذه الطبعة هي الطبعة التي نشرتها المطبعة العامرة ابتداءً من سنة 1329هـ، وهي من أفضل طبعات الكتاب، وحيث إن هذه الطبعة أصبحت تادرة جدا، وهي مع ذلك غير مرقمة الأحاديث، وتيسيرا لإخواني طلاب العلم اجتهدت في إعادة طبعها".

تحفة المحبين:

ومنها كتاب تحفة المحبين والأصحاب في معرفة نا للمدنيين من الأنساب، تأليف عبد الرحمن بن عبد الكريم الأنصاري المتوفى سنة سبع وتسعين ومائة وألف تقريبا، طبعته المكتبة العتيقة في تونس سنة 1390هـ، وهو كتاب مهم في دراسة التاريخ الحضاري للمدينة المنورة وسكانها في عصر معين من تاريخها الحافل الطويل، يقول محقق الكتاب محمد العروسي المطوي: "... ليس مجرد كتاب أنساب فقط كما يدل عليه عنوانه، بل هو - بالإضافة إلى ذلك - يصور مجتمع المدينة المنورة في القرن الثاني عشر للهجرة في مختلف أوضاعه السياسية والاجتماعية والاقتصادية مما يمكِّن الدارس - خاصة الاجتماعي - من وجود العناصر والمعطيات للدراسة والتحليل والاستنتاج، بالرغم مما سيجده المتصفح للكتاب من عدم الموضوعية - أحيانا - من المؤلف في حديثه عن بعض الأشخاص أو الحكم لهم أو عليهم".

زاد المعاد:

ومنها زاد المعاد في هدي خير العباد للحافظ ابن قيم الجوزية (ت 751هـ)، تحقيق محمد أجمل الإصلاحي، وتخريج سراج منير محمد منير، وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد، طبع دار عالم الفوائد بمكة المكرمة سنة 1439هـ، لخص الشيخ علي بن محمد العمران في مقدمته للكتاب ثلاث مزايا لهذه الطبعة:

1- طبعتنا هي الأولى التي اعتمدت على أقدم النسخ وأفضلها في مكتبات العالم، بعد أن كانت الطبعات المتداولة تعتمد على طبعات سابقة أو نسخة واحدة أو نسخ ناقصة ... وبالاعتماد على هذه الأصول الجيدة تبين ما في الطبعات السابقة من التصرف في النصوص من إضافة أو حذف أو سقط، وما فيها من تصحيف أو تحريف، أو تغيير لما في النسخ بلا موجب، أو تغيير السياق لتوهم في فهم النص، إلى غير ذلك مما كشفت عنه المقابلة...

2- العناية بالنص تخريجا لأحاديثه وآثاره، وعزوا لمصادره، وتوثيقا لنقوله، وضبطا لنصوصه، وغالب ذلك كانت تفتقر إليه الطبعات السابقة، وإن اهتم بعضها كطبعة الرسالة بتخريج الأحاديث، إلا أن إعوازها كان ظاهرا حتى في هذا الجانب.

3- التقديم العلمي الكاشف لحال الكتاب ومنهجه وكل ما يتعلق به، ثم الفهارس العلمية الكاشفة لعلومه وذخائره.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين