رحلة الحج (1)

 

يوم الجمعة 21 من ذي القعدة سنة 1439هـ

إليك قصـدي رب البيت والحجــر

فـأنت سؤلي من حجي ومن عمري 

إليك قصـدي قـبل البيت والأثــر

وقبل سعـيي بأركـان وبالحجــر

درّستُ في لندن بالأمس من الساعة العاشرة صباحًا إلى الخامسة مساء مادة علوم القرآن الكريم كجزء لدورة تعليمية إسلامية نسقها معهد جبريل، فلما انتهيت من الدرس قابلتني بنتي مريم وزوجها علي وابنهما سفيان محيين إياي مودعين، ثم زرت مع الإخوة الكرام الشيخ محمد زياد التكلة، وزيد الإسلام، ومحمد عابد خان فضيلةَ الشيخ هيثم الحداد فاستقبلنا استقبالا حارا واحتفى بنا احتفاء بالغا، وذلك لكرم فيه أصيل وما طبع عليه من خلق نبيل، وكشفتُ له عن قصدي للحج، فدعا لي بدعوات، وأعرب عن رغبته واستعداده لأداء المناسك معنا، وفقه الله وإيانا لطاعته، وجمعنا على الخير والصلاح، وقد رافقتني في وجهتي هذه دعوات من شيخنا الجليل العلامة الشريف محمد الرابع الحسني الندوي، وأخينا العالم الصالح الحبيب أحمد عاشور، وصديقنا الفاضل المؤرخ المسند محمد بن عبد الله آل الرشيد، وغيرهم من أجلة شيوخنا وكرام إخواننا العرب والعجم، فجزاهم الله خيرا.

و ركبنا القطار قبل الساعة السادسة متجهين إلى محطة بيدنكتن لزيارة شيخنا الجليل المسند الخيِّر نظام محمد صالح اليعقوبي، ووصلنا بعد الساعة السادسة والربع إلى فندق هيلتون الواقع قريبا من المحطة، والذي قد نزل فيه الشيخ مع أهله منذ بضعة أيام، وصادفناه منتظرا لنا في بهوه فسلَّمنا عليه وعانقناه وجلسنا حوله نتجاذب أطراف الحديث متحسين شرابا لطيفا باردا، وفاض الشيخ علينا بأخبار طريفة على دأبه عن الكتب المطبوعة والمخطوطة والنوادر العلمية والفنية والفكاهات العامة، والشيخ ممن لا تمل صحبته ولا يسأم من مجالسته، وحدثنا عن مانجو الهند وأنه يزيد على ثلاثمائة نوع، وأسهب في ذكر بعض أنواعه، فأغرب عليَّ وعلى أمثالي من أهل الهند إغرابا، ثم جرى الحديث عن طباعته لبعض المخطوطات الحديثية والفقهية للأئمة الأعلام، منها نسخة النويري لصحيح البخاري، ونسخة الربيع لرسالة الإمام الشافعي، والمجموع للنووي، وأقدم نسخة لصحيح مسلم ظفر بنصفها في مكتبة من مكتبات ألمانيا فطبع صورته، ونصفها الآخر موجود في مكتبة خدا بخش في بتنة، ولم يتمكن من تصويره رغم ما بذل من جهد، فأنحى على المسؤولين عنها باللائمة.

واستأذنا الشيخ مودِّعيه في الساعة السابعة، ووصلت إلى أوكسفورد الساعة العاشرة، وتعشينا لدى بنتي هالة في مأدبة حافلة بما يشتهى من الطعام ويستطاب، وما يستهنأ ويستلذ من الشراب، ثم رجعت إلى بيتي متعبا مرهقا، ومنعني الإعياء من أداء العشاء في المسجد، غفر الله لي وأنعم علي بالصحة والعافية والقوة والعزيمة.

أويت إلى فراشي قبل الحادية عشرة وغلبني نوم عميق فلم أستيقظ إلا عند أذان الفجر، وصليت جماعة في المسجد، وقرأ الإمام في الركعة الأولى آية الكرسي وما بعدها، فلما بلغ إلى قوله تعالى "الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور" بانت لي معان لم أعهدها قبل من ولاية الله للمؤمنين، ورحمته بهم ومنِّه وكرمه، فكل يوم له عطاء عليهم وفضل مديد، يتلقونه بوجه شكر جديد، وأسْعِد بمن أخرجه مولاه من الظلمات إلى النور، ومن الكفر إلى الإيمان، وأحرِ به أن يكون حمادا شكورا، وإن من سنة الهدى أن يستشعر التقي الرشيد ضعفه في أداء واجبه وعجزه عن عرفان أيادي ربه، ويرى نفسه متقاصرا دون بلوغ رتبة الأتقياء الراشدين، فلا أفلح من استغنى وطغى، ولا فاز من استكبر وبغى.

قضيت معظم النهار في إنجاز بعض المهام، وإتمام ما نقص من شؤوني، وتلافي ما فاتني من أمري، وطلعت للسفر الساعة الخامسة إلا الربع مساءا مع بنتي فاطمة وعائشة، وودَّعَنا زوجي وبنتاي حسنى وهالة وأولادهما بقلوب باكية ووجوه شاحبة، وداعا أيها الأهل! والوداع أيسر زاد، دافنين أسانا بين الحشى والفؤاد، ومتألمين من حزن البعاد، وهل ينفع التألم نفعا؟ وهل يأتي الحزن بما فيه جدوى؟ أيها الأهل! إن نمس عنكم نائين، فإنا نستحضركم في التخيل والوهم دانين، امتطينا الحافلة إلى المطار غير منثية عزائمنا، وجدَّ بنا الفراق جدًّا، وحدا بنا الشوق إلى بادية الحجاز وجدا، وأحب آفاق البلاد إلى ابن آدم أرض ينال بها كريم المطلب وسني المبتغى:

هـاج قلبي باهتزاز

نحو حب في الحجازِ

ووصلنا إلى مطار هيترو الساعة السادسة والنصف، واستقبلتنا بنتي سمية وستسافر معي، وكان معها لتوديعها زوجها أبو الفرحان وولداهما عاصم وآسية، وقابلنا الأخ ناصر الدين ضمير رئيس مجموعتنا، ومساعداه الشيخ كبير الدين، والشيخ مجاهد علي، وآخرون رجالا ونساء يصحبوننا في رحلتنا هذه، واستغرقت الإجراءات نحو ساعة، ثم توضأنا وصلينا العصر، وجلسنا على مقاعد قريبا من بوابة المغادرة ننتظر موعد الطائرة، ونحن في حنين إلى شطرنا، وقد أجد روحي تسبقني إلى معالم مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وآثارها، تلك البقعة المباركة التي يفديها المؤمنون بمهجهم، قلوبهم بها عالقة، وآمالهم إليها متطلعة، قليلي الاصطبار، غير آلفي التجلد، وإن للحب لوعة تترك الجلد إذا خامرته غير جليد:

هتف المنادي فانطلق يا حادي

و ارفق بنا إن القلوب صــوادي

ركبنا جناح الطائرة وتتنازع الأشواق من مواجيدنا، ما بين خاف في الضلوع و باد، وتسري الأحلام في نفوسنا سرىً يجوب مفاوز الآماد، هتف المنادي فأصغينا لندائه، ودعانا داعي الإله فاستجبنا لدعائه، ملبين تلبية طرب الكون من نفحاتها، وتعطَّرت الربوع والأجواء من فيحاتها، وفاض الوجد في قسماتها، هذا الرحيل إلى منازل لم تزل تهدي إلى الدنيا بركات السماء، وهذا المسير إلى مشاعر لم تزل تذكي القلوب والأرواح صباح مساء.

أقلعت بنا الطائرة وأنا أسرح في أسرار قوله تعالى "الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور"، وها قد شاهدت من ولايته لنا إذ أخرجنا من ظلمات الحضارة المادية ومضايقها إلى أضواء الحضارة الإيمانية، إلى بلاد تهامة ذات اليمن والهناء، مهبط الوحي، وموطئ أقدام النبي صلى الله عليه وسلم، ومحضن سننه وشمائله، ومستودع سير أصحابه الغر الميامين الذين لم تشهد السموات والأرضون جماعة أفضل منهم إيمانا وهدى وصلاحا وتقى، وطهارة سرائر وبر قلوب، وسنقضي في بلاد أولئك الأحبة ليالي وأياما آمنين متنعمين في ولاية ربنا الآلفة، وفي ظلال نوره الوارفة، فما أوفانا سعادة وما أبلغنا حظا.

إن الحج مبدأه قول إبراهيم عليه السلام "إني مهاجر إلى ربي"، وأوسطه الكلمات التي ابتلاه الله بها، فلا حج إلا للصابرين في سبيل الله على المشاق والمحن، ومنتهاه "إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين"، ولا حج إلا للخاضعين لأوامر ربهم مستسلمين لها منقادين، وثمرته تحقيق صفات الصبر والحلم والتأوه والإنابة، "يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى، قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين"، "إن إبراهيم لحليم أواه منيب"، و"بشرناه بغلام حليم"، إذا ذكر الصبر فإبراهيم وإسماعيل رأسا الصابرين الأخيار، وإذا تسابق الناس في الحلم، فلن يسبقوا الخليل ولا ابنه، فهما معنى الحلم وتفسيره، وإذا استشرحنا التأوه والإنابة فأبو الأنبياء هو الأسوة والمثال فيهما، ولن نقدِّر مدى سمو صفات إبراهيم وأهل بيته إلا إذا تملينا ما خسر العالمون بفقدان تلك المثل والقيم، وإنما يعرف الشيء بما يضادُّه، والأمر لا يكثر مُدَّاحه إلا إذا قيس إلى ما يحادُّه، يتفاخر الناس بما أفادوا من مال وثراء متكاثرين به، ويا ليتهم أفادوا صبرا وحلما وإنابة إلى ربهم وإخباتا، يا أيها المجدودون! رُزقتم أقوات أمم، وحرمتم قوتا أنتم إليه أحوج، أين الجبابرة الذين كنزوا الكنوز، فما بقين ولا بقوا، وخمدوا فما لهم من حسيس ولا نسمع لهم ركزا.

اقتفيت في حجتي أثر خطى إبراهيم عليه السلام، فإني مهاجر إلى ربي كما هاجر إبراهيم إلى ربه، وشتان ما بين خل وخمر، وما أوسع الفجوة بين هجرته وهجرتي، هاجر وقد ترك ملة قومه وتبرأ منهم، وهاجرتُ وأنا متلوث بملل أهل الجاهلية تلوثا وموالٍ لهم موالاة، هاجر وقد حطم الأصنام ونعى على الكوكب والقمر والشمس ضعفها وعجزها وأفولها، وقال كلمته التي لا تعدلها كلمةٌ بعد "لا إله إلا الله"، قال: "لا أحب الآفلين"، وهاجرتُ وأنا مغرم بالآفلين، هائم بالزائلين، ومفتون بالغاربين الهاوين، ما أشسع البون بين الهجرتين، هجرة بالعقل والقلب والروح والجسد، وهجرة أخرى بالجسد لا يوافقها قلب ولاعقل ولاروح، قد تحثُّ الدنيا وتجاربها أخا الزهد على زهده، وقد يحاول المرء تشبها بالصالحين ويسعى سعيهم فيدرك نبذة من حقائقهم وأخلاقهم، فقلت: لعلي إذا قضيتُ أيامي هذه مستعيدا قصة إبراهيم عليه السلام ومرددا لها تردادا أوتيتُ نصيبا من حنيفيته، ورزقتُ قدرا من حلمه وإنابته، وربي يعلم أني أحب إبراهيم وحنيفيته، وحلمه وإنابته، وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: المرء مع من أحب.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين