رحلة الأندلس

 

?إن تاريخ الأندلس حافل بنوادر الإنجازات في العلم والأدب والفتوحات، وعجائب قصص البطولات والمروءات، ومعالم الشرف والعظمة والأمجاد، ومشحون بالأرزاء والأكماد، والنكبات والشجون، ومفجعات القلوب ومبكيات العيون، وقد سبق أن قيدت رحلاتي للحج، وبلاد الشام، ومصر، وفلسطين، وهي مطبوعة إلا رحلتي إلى فلسطين، فلا تزال في مرحلة التبييض، والفرق بين بلدان الشرق الأوسط وبين الأندلس أن الإسلام في تلك البلاد متواصل الحاضر بالغابر، ومتسلسل الحلقات والصفحات، بينما الأندلس صارت روائع حضارة الإسلام فيها طلولا وآثارا، وتحولت قصورها وقلاعها وحصونها خرابا يبابا، وأمست أفراحها ومسراتها مآتم وأحزانا، ولا يصادف زائرها المُلِمُّ بها إلا ذكريات مؤلمة ملطخة بالدموع والدماء، ومفاخر ومآثر مدوسة تحت الأقدام، وثقافات وحضارات دفينة في أنفاق الأحجار وركام التراب، وبات العالم العربي والإسلامي مقطوعا عن مشاهدها وأخبارها طيلة قرون حتى أعلنت إسبانيا منذ الثمانينات في القرن الماضي بالسماح بحرية دينية تمخضت عن اعتناق مئات من الإسبانيين للإسلام وهجرة آلاف المسلمين من الدول المجاورة وغيرها إليها، مشكِّلين خمسا بالمائة بالنسبة لمجموعة قاطنيها.

?وبلاد الأندلس كان يسكنها في القديم قبائل الواندال من أصل جرماني إسكندنافي، فسميت "وانداليسيا"، وسماها العربُ "الأندلسَ"، وما "إسبانيا" إلا تسمية لها محدثة متأخرة.

?كانت رحلتي إلى الأندلس رحلة علمية نسقها معهد السلام الواقع في لندن، المملكة المتحدة، ضمن دورة تربوية لطلابها، واستغرقت الرحلة نحو اثني عشر يوما من الثاني عشر إلى الثالث والعشرين من رجب سنة 1438، ويدير معهد السلام الذي تم إنشاؤه سنة 2006م كمعهد للتعليم الإسلامي والعربي العالي متبعا لمنهاج دار العلوم لندوة العلماء، سمية أكرم وزوجها أبو الفرحان، ومدة الدراسة فيه ست سنوات، يحصل الطلاب بعد التخرج منه على شهادة العالمية.

?انطلقنا ميمِّمِين لها يوم الأحد ثاني عشر رجب في رحلة جوية استغرقت ساعتين ونصفا، وهبطنا في مطار مُرْسِية، وهي مدينة شهيرة في تاريخ الإسلام، تقع شرقي البلاد على ضفاف نهر شقورة، تطل على البحر الأبيض المتوسط، بناها المسلمون أيام الدولة الأموية الزاهرة في الأندلس، تمتاز بجمال مناظرها وبهاء ملامحها وكثرة المنتزهات والبساتين، ومن أعلامها العلامة أبو الحسن علي بن إسماعيل المعروف بابن سيده صاحب "المخصص" و"المحكم" و"المحيط الأعظم" المتوفى سنة 458/1066، وأبو العباس المرسي الشاذلي المتوفى سنة 686/1286، وابن عربي المتوفى سنة 638/1240، وقد ذكرها أبو البقاء الرندي في قصيدته الشهيرة في رثاء الأندلس، أُثْبِت هنا بعض أبيات منها:

لـكل شـيءٍ إذا مـا تـم نقصانُ        فـلا يُـغرُّ بـطيب العيش إنسانُ

هـي الأمـورُ كـما شاهدتها دُولٌ      مَـن سَـرَّهُ زَمـنٌ ساءَتهُ أزمانُ

فـجائعُ الـدهر أنـواعٌ مُـنوَّعة          ولـلـزمان مـسرّاتٌ وأحـزانُ

ولـلـحوادث سُـلـوان يـسهلها            ومـا لـما حـلّ بالإسلام سُلوانُ

دهـى الـجزيرة أمرٌ لا عزاءَ له        هـوى لـه أُحـدٌ وانـهد ثهلانُ

أصابها العينُ في الإسلام فارتزأتْ  حـتى خَـلت مـنه أقطارٌ وبُلدانُ

فـاسأل بلنسيةً ما شأنُ مُرسية      وأيـنَ شـاطبةٌ أمْ أيـنَ جَيَّانُ

وأيـن قُـرطبةٌ دارُ الـعلوم فكم        مـن عـالمٍ قـد سما فيها له شانُ

حيث المساجد قد صارت كنائسَ    مافـيـهنَّ إلا نـواقيسٌ وصُـلبانُ

حتى المحاريبُ تبكي وهي جامدةٌ    حـتى الـمنابرُ ترثي وهي عيدانُ

لـمثل هـذا يذوبُ القلبُ من كمدٍ      إن كـان فـي القلبِ إسلامٌ وإيمانُ

?وبعد الانتهاء من الإجراءات اللازمة في المطار اتجهنا بالسيارة مارِّين بالحقول الخضراء والبساتين الجميلة والحدائق الغناء، ومن خلال الجبال والوديان والنجاد والوهاد إلى القرية دي روزيلس، أي قرية الورود، شمال غرناطة، أنشئت في واد محاط بالجبال منفصل عن العالم سنة 1994م في أراضي صاحبها الشيخ عبد الصمد روميرو المتحدر من عائلة عريقة في الغنى والإمارة والشرف، والذي اعتنق الإسلام سنة 1980م، والقرية كأنها زاوية من الزوايا أو مأوى للفارِّين من الحياة المادية المعاصرة النافرين من مفاتنها والكارهين لمظاهرها الجوفاء، فيها منزل الشيخ عبد الصمد ومسجد يسمى البيضاء، وخزانة للكتب المطبوعة والمخطوطة، وسكن للزائرين، ومطعم، ومكاتب، ومرافق أخرى.

?وكان عدد الطالبين والطالبات معنا نحو 90 من المملكة المتحدة، والولايات المتحدة، وكنادا، وفرنسا، وإسبانيا، وإفريقيا الجنوبية، وماليزيا، وجلهم متخرجون من جامعات غربية حملة شهادات علمية أصحاب مناصب رفيعة وذوو مهن سامية، وبعضهم قد أكمل العالمية في معهد السلام حائزا على السعادتين فائزا بالحظوتين، أقام الطلاب بالقرية حيث مبيتهم ومطعمهم لمدة اثني عشر يوما، ونُظِّمتْ لهم دورة تعليمية وتربوية مكثفة، يُدرِّس فيها كاتب هذه السطور كل يوم أربع ساعات على الأقل مواضيع تفسير القرآن الكريم، وتزكية النفوس وتطهير القلوب، وتنمية ملكة النظر والفكر، وتاريخ الأندلس وأعلامها، وكان معنا الدكتور عفيفي العكيتي يُدرِّسهم كتاب "أيها الولد" للإمام الغزالي، وأساتذة يُعلِّمونهم الخط العربي، والهندسة، وتاريخ المخطوطات الإسلامية، والرماية، وحَوَت الدورة زيارة الأماكن التاريخية والأثرية كغرناطة وقرطبة وبعض الكهوف والمغارات والجبال والمرتفعات.

?وعقد معهدُ السلام مساء الاثنين عشري رجب مجلسًا مشهودا لسماع المسلسلات في مسجد البيضاء بالقرية، حضرها جميع الطلاب والشيخ عبد الصمد وأهله وإمام المسجد، فروى لهم كاتب هذه السطور أهم المسلسلات بأسانيدها وأعمالها وأقوالها، وأنِس الحضور بهذه الحفلة مغتبطين طربين، واستبشر الشيخ عبد الصمد بهذا الخير العظيم مبتهجا متهلل الوجه منبسط الأسارير متفائلا به أن يعود إلى بلاد الأندلس ماضيها التليد وفخرها المجيد في الاعتناء بالأحاديث والسنن سماعا ورواية وفقها ودراية.

?انتهت الدورة في الثالث والعشرين من رجب بكل نجاح وتوفيق، والحمد لله على ما أنعم وأكرم، وأعرب المشاركون عن بالغ سعادتهم وعظيم فرحهم بها، مسجِّلين انطباعات لهم وإعجابات مشجعة للقائمين عليها أيما تشجيع، وقد صرَّح طالبون وطالبات أن الدورة أعطت منحًى جديدا لحياتهم ووجَّهتْهم توجيها سديدا مُحبِّبةً إليهم الدين والصلاة والعناية بالقرآن الكريم والسنة، فاتحة لهم معاني بديعة لتزكية النفوس وتطهير القلوب، مُنْهِضة إياهم للنقد الذاتي والإصلاح الشخصي، مُسْتحثَّة إياهم ودافعة نحو إدراك معنى الحلم والرشد وإعمال النظر والفكر في دينهم ودنياهم، ومزيحةً لهم النقاب عن قيمة الزمن وشرف الوقت.

?كانت رحلات الرجوع من عدة مطارات في مدريد العاصمة، ومرسية، والكانتي، والأخيرة هي التي أقلعنا منها نحن معظمَ البريطانيين، والكانتي مدينة تقع في شرق إسبانيا، وهي ميناء تاريخي في البحر المتوسط، عرفت إبان العهد الإسلامي باسم "اللقنت" محلاةً بلام التعريف أو مجردةً عنها.

 

(و تابعوا الحلقة التالية)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين