رحلة الأندلس -9- قصر الحمراء

 

يقول حالي: "صارت الأندلس بفضل أولئك العرب جنانا وأنهارا، حيث تركوا معالم لهم وآثارا، فمن أراد أن يتبينها فليرحل إليها ويشاهدها، وكأن الحمراء تتغنى بهذا البيت من الشعر: إن الذين شيدوا عمارتي كانوا من بني عدنان، وإني لمن آيات العرب المخلدة على هذه الأرض".

إن قصر الحمراء في غرناطة لمن أروع قصور العالم وأعجبها جمالا وبهاءا، ولمن أفخم مباني الأرض فتنة للنفوس وسحرا للعيون، وأسماها بهجة ورواءا، ولمن أعظم الآثار الأندلسية العاتية على أعدائها أن تمسها أيديهم الدنسة المخرِّبة، والعنقاء تكبُر أن تُصاد، فعاند من تطيق له العناد، وإنه لمن أبدع الآثار الإسلامية إتقان صنع وإحكام بناء وبراعة فن، وإنه لأكبر شاهد على حذق مهندسي غرناطة ومهارة بنَّائيها وإجادة صُناعها، وسمّي الحمراءَ لحمرة آجره وبعض مواده التي يعلوها هذا اللون عند مزجها بالماء.

والحمراء عبارة عن عمارات وأبنية محاطة بأسوار، على ربوة عالية تسمى السبيكة، وقد بنى القصر أحد ملوك الطوائف في القرن الخامس الهجري، ولما اتخذ محمد بن الأحمر غرناطة عاصمة لمملكته الجديدة رمَّمه وعدَّله وأضاف أبراجه الضخمة التي توحي للأعداء بالشوكة والمهابة، واستخدم تقنية غريبة لسحب مياه النهر إلى القصر الذي يرتفع عنه بنحو مائة متر، ولما تولى ابنه محمد بن محمد الحكم شيَّد الحصن الجديد فيه، وصمم مسجداً كبيرا حوِّل إلى كنيسة السانتا مارية، وأضاف إليه السلطان يوسف أبو الحجاج أجنحة جديدة، وهي من أجمل الأجنحة وأحسنها.

اتجهنا نحو الحمراء الساعة العاشرة ليلا متسنمي هضبتها آمِّي مبانيها التي يتلاقى فيها بديعها وعجيبها، وعاليها وساميها، وكان معنا أطفال صغار يشق عليهم صعودها، فتعب آباؤهم وأمهاتهم في حملهم تعبا كبيرا، وكانت ابنتي سمية تحمل ولديها عاصما مرة وآسية أخرى، تساعدها في حملهما خالتهما عائشة، وحرّض أبو الفرحان الأطفال على المسابقة في الجري، فخفف ذلك بعض التعب عنهم وألهاهم عن بعد المسافة وصعوبة الارتقاء، وأشرفت علينا أبراج القصر فرميناها بأبصارنا معوجِّين مقوَّسين من عِظم ارتفاعها وسمو قممها وذراها، كأن بينها وبين نجوم الأفق جوارا، من أهمّها برج الأسيرة، وبرج الأميرات، وبرج قماريش، وللقصر عدة أبواب، أهمها باب الشريعة الذي يبلغ ارتفاعه خمسة عشر متراً، مكتوبا على قوسه بالخط الأندلسي: "أسعد اللّه به شريعة الإسلام وجعله فخراً على الأيام"، وتاريخ بنائه تحت تلك العبارة 749، أي ما يوافق 1354 من التقويم الميلادي.

ودخلنا باب الشريعة مواجهين مصلّى كبيرا ملصقة عليها لوحة تصور إيزابيلا وفرديناند يتسلّمان المدينة من العرب بعد حصار غرناطة الطويل، تتفاخر بها الإسبان، لما رأينا اللوحة وجدنا بها اللؤم ثاويا لا رائحا ولا غاديا، يا قصر إنما تمكن اللئام من نحت صور وتماثيل على أبوابك وجدرانك لما غادر رجالك الماشون فيك مثل الأسود، حبذا أهلك الحالون فيك يوم نزلوا وحلوا، وما أثقل اليوم الذي فيه تحملوا وارتحلوا.

جاوزنا المباني متقلبين في لذعات ولوعات تتقطعنا فجعات وحسرات، حتى وصلنا إلى القصر واجدين أنفسنا أمام أهم معلمة إسلامية متواصلة في أوربا، ودخلناه من الجناح المنسوب إلى لسان الدين ابن الخطيب، وهو محمد بن عبد الله بن سعيد بن عبد الله بن سعيد بن علي بن أحمد السّلماني الخطيب، الشاعر المؤرخ الفيلسوف (ت 776ه/ـ1374م)، عرف بذي الوزارتين أيام بني الأحمر، منقوشة أشعاره على جدران  الحمراء.

وأعجبتنا كلمة "لا غالب إلّا اللّه" المتكررة في أجنحة القصر وزواياه وبخطوط مختلفة، وكذلك كلمات عربية أخرى مكتوبة بخط أندلسي، ودخلنا بهو السفراء، وهو أوسع أبهاء الحمراء في شكل مستطيل، يعقد فيه مجلس الملك، ويعلوه برج  قمارش المستطيل، ثم دخلنا في فناء الريحان الكبير، تتوسطه بركة المياه وتظللها أشجار الريحان، مرسومة في زواياه الآية الكريمة (وما  النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم)، و(النصر والتمكين والفتح المبين لمولانا أبي عبد الله أمير المؤمنين...)، وفي النهاية الجنوبية من البهو باب ضخم، وقد تهدمت المباني التي كانت وراءه، ولم يبق منها سوى أطلال، وتوجد فيها بعض النقوش مثل "لاغالب إلا الله"، و"عزّ لمولانا السلطان أبي عبد الله الغني بالله".

وانتهينا إلى بهو صغير يسمى بهو البركة، ثم إلى باحة السرو، وفي جانب منها الحمامات الملكية، ولعل أجمل أجنحة الحمراء بهو الأسود، تتوسّطه بركة عليها اثنا عشر تمثالا للأسود، وكانت المياه تخرج من فم كلّ أسد تبعاً لتبدّل ساعات الليل والنهار، قام بإنشاء هذا الجناح السلطان محمد الغني بالله  (ت 793/3191م).

وتليه القاعة الملكية في غاية من الإبداع الفنيّ المكون من الزخارف والتمازج اللوني، وفي جانب منها قاعة بني سراج الغرناطيين، مفروشة أرضها بالرخام، تعلوها قبة عالية في جوانبها نوافذ يدخل منها  النور، وفي وسطها حوض نافورة مستديرة من الرخام، ودخلنا قاعة العدل شرقي بهو الأسود، مزينا سقفها بصور عشرة من ملوك غرناطة تعلوهم العمائم، تعبر ملامحهم عن الوقار والكبرياء، أولهم محمد الغني بالله. وآخرهم السلطان  أبو الحسن والد أبي عبد الله، وصور فرسان ومشاهد صيد، ودخلنا عين دار عائشة، وهي من أميرات غرناطة في  القرن الرابع عشر الميلادي، وفي الجهة الغربية من القصر مصلّى فيه ميضأة، ومدافن لملوك بني نصر.

ولما ظهرنا مبهورين بروعة هذا الجمال الساحر الفاتن تذكرنا القول السائر: ليس في الحياة أقسى من أن يكون المرء أعمى في غرناطة، يا قصر! أين بانوك والموطئون منك الديار، والذين شيدوا فيك العمائر، وأجروا خلالك الأنهار، وربطوا حولك الجياد، وحموا المحال والربوع، والأعراض والنفوس، لم يدع منهم حادث الدهر إلا عبرا للعيون والاستعبار، لم يكونوا إلا كركب تأنى برهة في مناخك ثم سار.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين