رحلة الأندلس -8- زيارة غرناطة

 

بُليت بلى الأطلال إن لم أقف بها

                                   وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه

?تحمَّلنا من القرية مُوافِي غرناطة وقصر الحمراء بها في السادس عشر من رجب في زعامة الأستاذة العالمة أديبة بنت الشيخ عبد الصمد رميرو، وهي مجيدة لللغة العربية، متحمسة لتاريخ الإسلام في إسبانيا، متخصصة في المخطوطات العربية، فاستقينا من علمها متعرفين على تاريخ هذه البلاد وآثار غرناطة وقصر الحمراء، شاكرين لها ومعترفين بجميلها، وجزاها الله تعالى خير الجزاء وأوفاه.

?إن المحالَّ والربوع التي اجتزناها سالكين نحو غرناطة هي من آخر ما حكمه المسلمون في أرض الأندلس، شاهدةً على حضارتهم وثقافتهم، وحاضنةً لآثارهم وذكرياتهم، لائحةً لنا مساجد حُوِّلت إلى كنائس، ومنازلُ إسلامية عتيقة استولى عليها أقوام لم تستحقها تشييدا ولا بناءًا، ولا اشتراء ولا امتلاكا، وطالعةً لنا جبال محتفظة بآثار مساكن المسلمين ومخابئهم أيام اختفائهم من السلطة الأسبانية هروبا من اضطهاداتها واعتداءات الكنائس وسياسة التعذيب والتنكيل الهمجية.

?ولقد غمرني نوع من الغبطة والابتهاج إذ اخترقت حافلتنا ضواحي وادي آش، والتي يرجع بناؤها إلى عصر الأمويين، وما برِحتْ تابعة لمملكة غرناطة في دولة بني نصر الى أن سلّمها أبو عبد الله الزغل للنصارى سنة 1488م، أنجبت نخبة من العلماء المحققين والأدباء المتفننين والفلاسفة البارزين، كابن طفيل (ت 581 هـ/ 1185م) المعروف ببحوثه وتحقيقاته في الطب والرياضيات، وأبي عبدالله محمد بن جابر القيسي والوادي آشي (ت 749/1348)، اعتنى بالسماع والرواية، ورحل في طلب العلم، وجاب المدن والقرى، وروى عن شيوخ كثيرين في الشرق والغرب، ترجم لهم في برنامجه.

?كان ذهني تراوده مشاعر مزيجة من الفرح والحزن، وحافلتنا مسرعة نحو غرناطة، الفرح باقترابنا من معقل المسلمين الأخير في هذه البلاد وبناتُ الشوق يحنِنَّ نُزَّعا، والحزن على نكبتهم بعد سقوط غرناطة والعقل مُتّلِه والقلب مشغول، فقلما واجه شعب من الشعوب ما واجهه الأندلسيون من خطوب داهية ومحن دامية، وكروب مديدة ونوائب شديدة، وإني لمتصفح كوارثهم وبلاياهم إذ دخلنا غرناطة في الساعة الخامسة مساءا وصادفناها وكأنها منا على ميعاد، فحيَّتنا تحية الثكلى الحنينة إلى كل من تصلهم بها رحم ماسة، وحييناها رجاء أن تحكي لنا قصة أبنائها شوكة وقوة، ولنعم ما خواجه ألطاف حسين حالي: "تبدت من غرناطة شوكة العرب، وبرزت من بلنسية روائع حضارتهم، وتتذكر بطليوس عظمتهم، وتتقاطر من قاوس حسراتهم"، فلما استثرتها ذكر ماضيها قالت وتبريح من الحزن المديد خانقُها: وجدتُ كل مصيبات الزمان هيِّنة خطوبها سوى فرقة الأحباب وغروبها.

?لما نزلنا من الحافلة منتشرين في الشارع متكاثرين استغربَنَا الإسبانيون متهامسين من تواجدنا مستائين، كاشحين عنا متتبعين هَوانا مُبدين دوننا نظرا شزرا، فتولينا عنهم تاركيهم يتهامسون ويتخافتون، ومعرضين عنهم وعن شرور أفكارهم إعراضا، حتى طلعنا ربوة مطلة على الوادي، فوقفنا عليها قليلا سارحين بأنظارنا نحو جدران قصر الحمراء وبعض مرافقه، قائلين: ما أجمل هذه الأرض المذكرة بالأحبة، ما أطيب رُباها، وما أحسن وهادها ونجادها، نحبها لما أنجبت من عباقرة وأعلام وحضارات وثقافات، وإن كانت توارثتها جدوب وعاقمات عاقرات، وتأملناها رافعي أبصارنا إلى شموسها وبدورها، ولما ملأنا العيون منها ملأناها عبرات ودموعا، ألا مرحبا بكل ما قرت به العيون، وشفيت منه الصدور.

?ثم دخلنا مسجد غرناطة الذي تم تشييده سنة 2003م بأعلى ربوة في حي البيازين، تجولنا أولا في حديقته مزدانة بألوان من الزهور والورود، مزدحمة بالزوار من المسلمين وغيرهم، ولعلها هي أنسب مكان لإلقاء النظرة عبر الوادي الضيق على قصر الحمراء، فأرسلت إليه طرفي رائدا لقلبي وقد أعجبتني مناظره، ألا يا حبذا نفحاته وريَّا روضه، ثم دخلنا في المسجد وتوضأنا وصلينا ركعتين تحية، وقد لفتتنا كتابات عربية جميلة على الجدران متضمنة كلمة "لا غالب إلا الله" وكأنها شعار للملوك وسائر المسلمين في الأندلس، وتجولنا بأفكارنا في ماضي هذه المدينة إذ تعرض المسلمون فيها للتنصير والتعذيب والتشريد والتهجير، وأغلقت المساجد والجوامع وحولت إلى كنائس، وكيف أدار الله الزمان إذ وفق المسلمين للرجوع إليها وبناء المساجد فيها وأداء الصلوات، فالحمد لله رب العالمين.

?وتجولنا نحو ساعتين في حي البيازين، والذي يقع شمال شرقي المدينة، على هضبة يفصلها عن قصر الحمراء وادي نهر الدارو، واختلفوا في تفسير التسمية، وترى الأستاذة أديبة أنه سمي بالبيازين لكثرة ما فيه من طيور الباز تربّى فيه وتباع، وهو أكبر أحياء المدينة، مختصا بمنازل عدد كبير من الأسر الغنية والبيوتات الشريفة، ومعروفا بمساجده الكثيرة، محولة كنائس أومتهدمة مهملة. وفيه ثلاثة أبواب: البيازين، وفحص اللوز، والزيادة، وقصر، يعرف باسم "دار الحرّة"، بني في القرن الخامس عشر المسيحي، يتكوّن من بهو ومجموعة غرف ومجالس مزدانة سقوفها وجدرانها بزخارف.

?وعجبنا أن الحي باق متواصل بسائر خططه ودروبه الأندلسية الضيقة، والبيوت المتلاصقة، والأسواق المتقاربة، ولم يطرأ عليه سوى تغيير ضئيل، متميزة بيوته التاريخية بأفنيتها الداخلية ونوافذها ذات الطراز العربي المطلة عليها، ويوجد بالحي حمّام كبير على الطراز العثماني، ومنزل أندلسي ما زال يحتفظ بنوافذه وزخارفه العربية، نقشت على مشارفه عبارة “الحمد لله على نعمة الإسلام”، وهو اليوم مقر لأحد مراكز الشرطة، ورأينا كثيرا من المنازل تسمى بكرم (والكرم: شجرة العنب) فلان وفلان، فسوابق الأسماء ثابتة باقية ولواحقها غيرت تغييرا اغتصابا وقسرا وإكراها:

أما الخيام فإنها كخيامهم

                            وأرى نساء الحي غير نسائها

?وخلال تجوالنا في الحي وجدنا بعض الطرق مزدحمة ازدحاما شديدا منعنا من المرور فغيرنا وجهتنا، وعرفنا فيما بعد سبب هذا الازدحام، وهو خروج المواكب السنوية من الكنائس المختلفة في غرناطة وغيرها من مدن إسبانيا احتفالا بطرد المسلمين من بلاد الأندلس في جو جماهيري ضخم في هذا اليوم من أبريل من كل سنة.

?وحي البيازين معروف بما يسمى بثورة البيازين في غرناطة سنة 904هـ / 1499م إذ غدر الإسبان بالمسلمين ناقضي عهودهم ومواثيقهم، وبلغ الغيظ من المسلمين كل مبلغ، وانفجروا ثائرين عندما اعتدى بعض رجال الشرطة والمقربين للكنيسة على فتاة مسلمة في هذا الحي، فهاجموا المعتدين، وقبضوا على رجل من رجال الشرطة فقتلوه، واختاروا أربعين رجلًا منهم مشكلين حكومة مستقلة، وأغلقوا الطرقات أمام الحملات العسكرية ورموها بالحجارة، فمكرت بهم الحكومة الإسبانية حائكة ضدهم المؤامرات حتى أخمدت الثورة، وهرب الثوار من غرناطة إلى إقليم البشرات ناجين بأنفسهم من أن يلحقهم تعذيب أو تنكيل.

?وما تزال الآثار العربية واضحة في قلب المدينة وبعض نواحيها، منها دار العلوم التي بناها يوسف الأول سنة 750هـ/1349م، وقد قام في مكانها بناء جديد، ولم يبق منها سوى المحراب، ومررنا ببعض الحمامات العربية في حي البيازين وعلى ضفة نهر الدارو، واجتزنا من خلال سوق غرناطة التي شيّدت في منتصف القرن الرابع عشر، وما تزال قائمة بمبانيها القديمة ماعدا أبوابها، وقد آلمنا كثيرا المرور بكنائس كبيرة بنيت على أنقاض المساجد، محتفظة ببعض آثارها مذكرة للزائرين بماضيها الطاهر وأصحابها الغر الميامين القاصدين رحابها قياما ركعا ساجدين ومعتكفين، ومذاكرين علوما وفنونا وآدابا متعلمين معلمين.

?ومررنا بحي المغاربة الذي عمر في النصف الثاني من القرن الخامس عشر قرب حي البيازين للهاربين من القرى والمدن المجاورة بعد سقوطها، ثم تجولنا في شارع كالدررياس المشهور بتيترياس ومقاهي الشاي، وهي أبرز الأحياء والشوارع العربية فيها، تعيد المرء الى أجواء الأندلس العربية الإسلامية، وتعشينا في مطعم مغربي في هذا الشارع مستريحين فيه بعد مشي طويل.

?وودَّعنا المدينة مساءا، هجرتْ وطيف خيالها لم يهجر، والحزن قد تغلغل مني حيث لم يبلغ شراب ولا سرور، فما بت ليلة منذ رجعت من غرناطة إلا وذكرها في قلبي جارٍ، وشجاها في أحشائي سارٍ.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين