رحلة الأندلس -7- مملكة غرناطة

 

?بعد تدهور وضع الدولة العامرية في الأندلس وظهور ملوك الطوائف فيها أصيب المسلمون بوهن شديد وخَوَر مهين، فاجتمع علماء قرطبة سنة 422ه باحثين عن حل للفتن المتفاقمة والحروب المتواصلة واتفقوا على مجلس شورى لإدارة البلاد وتقسيمها إلى سبع دويلات، وفشل هذا الحل في حماية المسلمين من التخاذل والانهيار حتى سقطت طليطلة سنة 478ه، وأرسل الفونسو ملك قشتالة وفدا إلى المعتمد بن عباد ملك إشبيلية يطلب منه الجزية، فانتدب المعتمد ملوك الأندلس والعلماء يستشيرهم وينبههم على خطورة الوضع، وأشار العلماء بالاستعانة بالمرابطين، ولكن الأمراء رفضوا هذا الرأي خوفا من أن يتسلط المرابطون على الأندلس، فقام المعتمد بن عباد وقال كلمته الشهيرة التي تستحق أن تكتب بماء الذهب: "إني لا أحب أن ألعن على منابر المسلمين، ولأن أرعى الإبل في صحراء المغرب خير لي من أرعى الخنازير لدى النصارى"، فاقتنعوا جميعا به وأرسلوا وفدا من العلماء إلى المرابطين يسألونهم العون والمناصرة، ويطلبونهم النجدة والمؤازرة.

?دخلت الأندلس تحت دولة المرابطين (484-539ه) يقودها الفقيه الورع الزاهد التقي يوسف ابن تاشفين، وحاول المرابطون تحرير الأراضي المسلوبة والمدن المغصوبة فنجحوا في استرداد سرقسطة وغيرها من المدن، وفشلوا في أخذ طليطلة، ووقعت حرب اقليش بين المسلمين والنصارى في سنة 501هـ منتهية بانتصار المسلمين فيها انتصارا ساحقا، ثم صارت الأندلس تحت دولة الموحدين (539-620ه)، وبقيت في حكمهم نحو قرن من الزمان.

?وأخيرا استغل الملوك النصارى ضعف المسلمين، وألحقوا بالمسلمين هزائم متتالية واستولوا على مدنهم الواحدة تلو الأُخرى، وسقطت قرطبة سنة 633/1236م، فقام الغالب بالله محمد بن يوسف بن محمد بن أحمد بن نصر بن الأحمر، المنحدر من قبيلة الخزرج الأزدية القحطانية، بتأسيس مملكة غرناطة سنة 635/1238، وساعده موقعها الجغرافي المتميز في توسعتها، وتطويرها مركزا تجاريا واصلا بين أوروبا والمغرب، وظلت المملكة محافظة على نموها وازدهارها حتى خلال القرن الرابع عشر الميلادي الذي تعرضت فيه أوربا للحروب والأزمات التجارية والمشاكل الزراعية والتي أدت إلى تمزيقها وإفساد الحياة فيها وإنهاكها اقتصاديا، وتفشي الطاعون فيها والذي قضى على ربع سكانها.

?وخاضت غرناطة حروبا مع الدول النصرانية أسفرت عن انتصارات لها أحيانا وهزائم لها أخرى، وحالفها الحظ إذ اشتعلت في قشتالة حرب أهلية بين طوائفها المتنازعة في النصف الثاني من القرن الرابع عشر الميلادي، متمخضةً عن انتكاس مملكة قشتالة ورهَقها رهقا شديدا، وسامِحةً لمملكة بني الأحمر بالاستمتاع بالسلام والرخاء، والرفاهية والثراء، والحفاظ على استقلالية في التعامل مع الدول المجاورة، وتواصل هذا الوضع من الاستقرار والهدوء وخفض من العيش والسعة في غرناطة نحو قرنين من الزمان، مولدا واحدة من أقوى المدنيات والحضارات المزدهرة في الاسلام، وموفرا الملجأ للمسلمين المستضعفين الناجين بأنفسهم من الفتن والمحن والاضطهادات المتصاعدة ضدهم في سائر بلاد الأندلس.

?وبعد هذا الازدهار الطويل آل آمرها إلى ملوك ضعفاء عاجزين عن قيادتها والحفاظ على استقرارها وأمنها، ولما انتهت الحرب الأهلية القشتالية حوالي سنة 1480م استغلت ملكتها ايزابيلا الأولى الحروب الأهلية الغرناطية نتيجة الصراعات الشديدة بين فرقتين من جيش بني الأحمر، إحداهما ممثلة في الموالين للسلطان أبي الحسن علي بن سعد وأخيه محمد بن سعد الملقب بالزغل، وأخرى ممثلة في المنتمين للأمير الصغير أبي عبد الله محمد الثاني عشر بن السلطان أبي الحسن.

?فهاجم الإسبان إمارة مالقة ليستولوا عليها ويبيدوا من كان بها من المسلمين إلا أن أبا عبد الله الزغل قاتلهم قتالا عنيفا وهزمهم هزيمة نكراء ومنح المسلمين الأمل في استعادة شرفهم الذاهب وكرامتهم الماضية، فأحس أبو عبد الله الصغير بالغيرة من عمه حسدا على بروزه بطلا وقائدا شجاعا بين المسلمين، وحاول غزو قشتالة  فهُزم وأسر في لوسينا سنة 1483م، وبقي في الأسر سنتين، ولم يطلق سراحه إلا بعد توقيعه على اتفاق سري مع ملك إسبانيا فريدناند وزوجته ايزابيلا، مهد السبيل إلى توقيع معاهدات أخرى.

?وأخيرا قامت قوات ممالك قشتالة وأرجوان منذ سنة 1484م بسلسلة من الحصارات الطويلة المدى والصعبة محققة انتصارات كبيرة ومحرزة السيطرة على الأراضي الغرناطية جزءا بعد جزء ومساحات تلو الأخرى، وبعد أن خسر المسلمون مالقة سنة 1488م ومدينة المرية والأراضي الشرقية سنة 1489م أحست غرناطة بتورطها في موقف بئيس مزلزل مضيِّق عليها الخناق.

?تحرك فرناندو وإيزابيلا سنة 1489م نحو غرناطة وأقاما حصارا عليها، ونجحت جيوشهما سنة 1491م في التغلب على سور غرناطة وتدميره، واضطر أبو عبد الله إلى توقيع معاهدة غرناطة، والتي منحت المدينة مدة شهرين للاستسلام، وبعد مناقشة الشروط والتي اعتبرت ضامنة لحقوق المسلمين المدنية وحريتهم الدينية سُلِّمت غرناطة في الثاني من شهر ربيع الأول، سنة 897هـ/ 2 من يناير سنة 1492م إلى الإسبانيين، واندثر وجود مملكة بني الأحمر والتي استمرت أكثر من 250 سنة، بل وانتهى حكم المسلمين في الأندلس بعد ثمانية قرون طوال .

?وغادر أبو عبد الله الصغير عرش ملكه في يوم كان بأسه على المسلمين شديدا مدفوعين نحو مستقبل مجهول مليئ بأشباح من الخوف والذعر، وفتن كقطع من الليل المظلم، ووقف على تلٍّ ألقى منه نظرته الأخيرة على غرناطة مستعبرا باكيا، فقالت له أمه عائشة الحرة: أجلْ فلتبكِ كالنساء على ملك لم تستطع أن تدافع عنه كالرجال. ولا يزال هذا التل المعروف بـزفرة العربي الأخيرة يقص على زائريه الموقف المخزي المهين لهذا المخلوع المخذول الذي أضاع إمارة توارثها أبا عن جد، وصدق قول الله تعالى "وتلك الأيام نداولها بين الناس".

بـالأمس كـانوا ملوكًا في منازلهم

والـيومَ هـم في بلاد الكفرِّ عُبدانُ

فـلو تـراهم حيارى لا دليل لهمْ

عـليهمُ مـن ثـيابِ الـذلِ ألوانُ

ولـو رأيـتَ بـكاهُم عـندَ بيعهمُ

لـهالكَ الأمـرُ واستهوتكَ أحزانُ

يـا ربَّ أمّ وطـفلٍ حـيلَ بينهما

كـمـا تـفـرقَ أرواحٌ وأبـدانُ

وطفلةً مثل حسنِ الشمسِ إذ طلعت

كـأنـما هي يـاقـوتٌ ومـرجـانُ

يـقودُها الـعلجُ لـلمكروه مكرهةً

والـعينُ بـاكيةُ والـقلبُ حيرانُ

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين