رحلة الأندلس -6- مدينة الزهراء


وصلنا ظهرًا إلى موقع مدينة الزهراء على بعد 8 كم شمال غربي مدينة قرطبة التي صارت في عهد الأمويين إلى أرقى ما يتصور من أشكال النهضة الحضارية والبذخ والترف والإسراف، لاسيما في زمن عبد الرحمن الناصر (ت 355ه) ثامن الحكام الأمويين في الأندلس وارثي المجد من علياء معد، ملقبا نفسه بالخليفة، أنشأ مدينة الزهراء مقرًا للخلافة الجديدة بعيدا عن زحمة قرطبة وكثافة سكانها وصخبها وضجيجها.
?بدأ برفع قواعدها في محرم سنة 325هـ مستعينا بجيش من العمال وذوي الحذق والإتقان في البناء والنحت والصناعة تحت رعاية صفوة المهندسين والمعماريين من بغداد وسائر عواصم الأرض وحواضرها، واستغرق إتمام عماراتها ومنشآتها طول عهده وغالبَ عهد ابنه الحكم المستنصر، أي حوالي أربعين سنة، بَيْدَ أنها استُعملت دارا للخلافة ومركزا للحكم منذ سنة 329هـ إذ كمُل تشييد القصر والمسجد، جامعةً بين أبَّهة الملك المترف، وشوكة السلطان المفخم، وأركان الدولة الإدارية والعسكرية.
?وصفها ابن خلكان قائلا: "والزهراء من عجائب أبنية الدنيا، أنشأها أبو المطرف عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله الملقب الناصر أحد ملوك بني أمية بالأندلس، بالقرب من قرطبة، في أول سنة خمس وعشرين وثلاثمائة، ومسافة ما بينهما أربعة أميال وثلثا ميل، وطول الزهراء من الشرق إلى الغرب ألفان وسبعمائة ذراع، وعرضها من القبلة إلى الجنوب ألف وخمسمائة ذراع، وعدد السواري التي فيها أربعة آلاف سارية وثلاثمائة سارية، وعدد أبوابها يزيد على خمسة عشر ألف باب.... وهي من أهْول ما بناه الإنس وأجلِّه خطرًا وأعظمه شأنًا".
?وقبل أن نصعد إلى الزهراء شاهدنا لقطة فيديو تعطينا فكرة عن تلك المدينة الراقية وكأننا في عالم شبح وخيال، أو حلم معسول من الأحلام، أو وهم مذهل من أوهام ألف ليلة وليلة ونحن نيام، فحدّقنا قصرها قصرًا سميك الذرى، مُفاخِر السماء، بالِغ العلا في الزخرفة والتنميق والتزيين، عديم النظير في الروعة والجلال، محدَقا ببساتين وجنان، ومتخلِّلا بحدائق ورياض، وبين أيديه أفنية للحيوانات والوحوش، ومسارح لذوات الألوان من الطيور، وأبصرنا دارا لصناعة الأسلحة وصياغة الحلي وتطوير أسباب الزينة، وبهو السفراء المسمى بالمجلس المؤنس، يجتمع فيه السفراء القاصدون من سائر بلاد أوربا إظهارا لولاء دولهم وممالكهم للخلافة، فيشاهدون من عظمة هذه المدينة وبذخها وترفها ورقيها وتقدمها ما يفوق تخيل المتخيلين وتوهم المتوهمين، ويرجعون إلى بلادهم مبهورين مشدوهين.
?لما طلعنا إلى موقع الزهراء بسفح جبل العروس على صعيد طوله من الشرق إلى الغرب ألفان وسبعمائة ذراع، وعرضه من القبلة إلى الجنوب ألف وخمسمائة ذراع، وجدنا أطلالها عافية ديارُها محلُّها فمقامُها، كمراجيع وشم في نواشر مِعصم، غير متميزة مبانيها وساحاتها ومَمارُّها ولو بعد توهم، وقد جَلَت الكشوف الحديثة عن الطلول كأنها زُبُر تُجِدُّ متونَها أقلامُها، وعلى الرغم من أنه لم يتم إلا الكشف عن الجزء اليسير من الزهراء فإن المكتشف من آثارها يكفي لتكوين صورة كافية عن هندستها المعمارية.
?وهي منقسمة إلى ثلاث طبقات، أعلاها قصر الخليفة والمقام الخاص، كانت جدرانه من الرخام المزين بالذهب، في كل جانب من جوانبه ثمانية أبواب، معقودة على حنايا من العاج والأبنوس المرصع بالذهب والجوهر، مزدانة أطرافه بالتماثيل والصور البديعة، وفي وسطه صهريج عظيم مملوء بالزئبق، منصوبا فيه الحوض الشهير المنقوش بالذهب، الذي أهداه إليه قيصر القسطنطينية، والذي جلبه منها إلى قرطبة ربيع الأسقف، وحوض رائع آخر جلبه إليها الوزير أحمد بن حزم من الشام، يقوم على القصر اثنا عشر تمثالا من الذهب الأحمر المرصع بالجواهر، وهي تمثل بعض الطيور والحيوانات قاذفة الماء من أفواهها إلى الحوض.
?ثم نزلنا إلى المدرجة الثانية المكونة من مساكن أعوان الملك من الوزراء والقواد والرؤساء والحرس والحاشية، وفيها دار الجند، والبحيرات، ودار الرخام، وعدة قصور ومبان وممرات.
?ثم نزلنا إلى المدرجة الثالثة أسفل الربوة، فيها أربعة أفنية كبيرة عالية، وهـي التي يجري اليوم العمل لإعادة تشكيلها، ولعل فيها البهو العظيم الذي كان مخصصًا لاستقبال الملوك والأمراء وكبار السفراء، وألقينا منها نظرة إلى مسجد الزهراء، كان طوله من القبلة إلى الجوف، عدا المقصورة، ثلاثين ذراعًا، وعرض مصلاه الأوسط من الشرق إلى الغرب ثلاثة عشر ذراعًا، مزودا بعمد وقباب فخمة، ومنبر متقن الصنع وبديع الزينة، وتعلو صحن الجامع ظلة تقي المصلين من حر الشمس، فجاء آية في الروعة والإبداع، والفخامة والجمال.
?وسرعان ما فقدت مدينة الزهراء شأنها وخطورتها وصفتها كقاعدة الخلافة بعد ما سيطر الحاجب المنصور بن أبي عامر على مقاليد الأمور وبنى مدينته المعروفة بالزاهرة، ونقل إليها خزائن الأموال والأسلحة ودور الحكومة، ثم فقدت الزهراء رسومها ونفيس تحفها وبديع نوادرها عندما اجتاحت الأندلس الفتن والحروب في القرن الخامس الهجري.
أمست خلاء وأمسى أهلها احتملوا
أخنى عليها الذي أخنى على لبد
?رثى الفتح بن خاقان الزهراء رواية عن بعض الكبراء: "وآثار الديار قد أشرفت عليهم كثكالى ينحن على خرابها، وانقراض أطرابها، والوهى بمشيدها لاعب، وعلى كل جدار غراب ناعب، وقد محت الحوادث ضياءها، وقلصت ظلالها وأفياءها، وطالما أشرقت بالخلائف وابتهجت، وفاحت من شذاهم وأرجت، أيام نزلوا خلالها، وتفيأوا ظلالها، وعمروا حدائقها وجناتها، ونبهوا الآمال من سناتها، وراعوا الليوث في آجامها، وأخجلوا الغيوث عند انسجامها، فأضحت ولها بالتداعي تلفع واعتجار، ولم يبق من آثارها إلا نؤى وأحجار، وقد هوت قبابها، وهرم شبابها، وقد يلين الحديد، ويبلى على طيه الجديد".
?وحان وقت الرحيل عن الزهراء فوقفت بها قليلا أفكر في حال ابن آدم لا يعتبر بمن مضى من الآباء والأجداد، واللبيب اللبيب من ليس يغتـر بكونٍ مصيرُه للفساد، ما أقل المعتبرين! وما أكثر المغترين! ما أغفل من زعم: من سجايا الطلول أن لا تسمع ولا تجيب، وكيف نسائل صمًّا خوالد ما يبين كلامها؟ وهل يتكلم رسم دار حتى يتكلم الأصم الأعجم؟ كلا، إن هذه الدمن تتكلم بتجرم عهد أنيسها بعد حجج خلون، والتحية ما أبلغها إذا جاءت من طلل تقادم عهده، يقول: أنسيتَ الموت وجهلتَ البلى وسلَّتْ نفسَك ولهَّتْها المنى، بينما الإنسان في الدنيا له حركات مقلقات صائر إلى خفت ورقاد، ما أقرب المحيا الطويل من الممات، والدهر لا يبقي على نكباته صم الجبال الراسيات الشامخات، وأت القبور فنادها بأصوات، فإذا أجبن فاسأل الأموات، أين الملوك بنو الملوك، فما منهم من أحد إلا وهو في التراب رفات.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين