رحلة الأندلس -4- زيارة قرطبة

قال الشافعي ليونس بن عبد الأعلى الصدفي: هل رأيت بغداد؟ قال: لا، قال: لم تر الدنيا، رحم الله الشافعي، إنه لم يركِ يا قرطبة! ولو رآكِ لضم اسمكِ إلى بغداد ولَقَرن بينكما في الذكر،  لعل أول ما قرع سمعي اسم قرطبة عاصمة الأندلس الإسلامية لأكثر من خمسة قرون، مضاهية بغداد في العلم والثقافة والحضارة، حين وقع في أذني شعر خواجه ألطاف حسين حالي وأنا صغير: لِيذْهبنَّ الذاهب ولِيطَّلِعَنَّ على خِرَب قرطبة وآثارها، ومحاريب جوامعها وأبوابها، ودور أمراء الحجاز فيها وقصورهم، وأطلال الخلافة وبقاياها، فلَيريَنَّ جلالهم لامعا في تلك الطلول والآثار لمعان الذهب المصفى في التراب".

لقد بلغ الشوق منا مبلغ صبوة وحنين منذ حططنا رحالنا في أرض الأندلس أن نزور قرطبة تلك المعلمة الحضارية التي كأنها جسر بين الشرق والغرب، ومعبر بين القديم والحديث، وصرتُ كلما لقيت أبا الفرحان أو غيره من عرفاء معهد السلام أسألهم متى سنؤُمُّ قرطبة مُوافين لها وافدين إليها، حتى صمَّموا على التوجه إليها يوم الثلاثاء الواحد والعشرين من رجب، فركبنا حافلتين قاصدين أمنيتنا مجتازين هضبات وتلالا، وأكمات وجبالا، وأودية وقعارا، وبطونا وقيعانا، وأباطح وسهولا، ومزارع وحقولا، وبساتين وجنانا، مشاهدين القرى والمدن التي حلت بها أمم وشعوب من الحجاز ومن والاها من العرب والأندلسيين والبربر فاستحسنتها مثوى ومقاما، مترددين بين مشهود خلاب فاتن بمناظره البهية وغائب رائع بديع سالب للألباب آسر للنفوس وأخَّاذ للقلوب، مصادفين رجالا ونساء من الموجود الحاضر، ومُطِلِّين على قواد وفرسان ذوي عزيمة وشكيمة، وعلماء معممين وشيوخ صالحين، وشباب نشيطين، وطلاب للعلوم والآداب مُجدِّين، ونساء محجبات محصنات من المنصرم الغابر، وتغلبت قوة جمال الماضي على قلوبنا وسيطرت عليها سيطرة فردتنا عن الحاضر ردا، وقطعنا الطريق إلى قرطبة وكأننا لم نشهد من حاضر إسبانيا إلا اليسير القليل زاهدين فيه، غير طامعين فيه ولا مُغْرَين به إغراءا، فلا تلومينا يا إسبانيا! فإن ذكرياتك أشهى لنا وأحلى من جميع ما يشتهيه المشتهون ويهواه الهاوون،  لقد فجع سالفك البعيد زائريك فجعا يغالبون دموعهم وهي تغلبهم جارية جريانا، ومن أظلم ممن لم يسِل دمعا على ركب الحجاز، وتعالي نصدقك أن الدموع والعبرات ليست بدافع عنا وُلوع غرام أخذنا كالحريق المضرَّم، يا إسبانيا! لا تلومينا فلا رغبة لنا في مدنيتك الحديثة، إنما محط أمانينا مقابركِ، وما مبتغانا إلا هوى دفينة في ترابك، إن كل ذرة من ذراتك تذكِّرني بقوم من بادية نجد أو بطحاء حجاز، وإن أجواءك تعطرني لأني أشم منها طيب روائح أمة النبي المختار صلى الله عليه وسلم.

دخلنا ظهرا في قرطبة المدينة التي أغرمت بها أوربا إغراما وهامت بها هياما فقد كانت في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي أكبر مدنها سكانا ومركزَها الثقافي والسياسي والاقتصادي الفريد البارز، إذ سكنها ما يقارب المليون نسمة، وضمت أعظم العلماء وأكبر الفلاسفة الحكماء، ووفد إليها الطلاب من كل حدب وصوب متهافتين عليها تهافت الظمآن على الماء:

بأربع فاقت الأمصار قرطبة

منهــنّ قنطرة الوادي وجامعـها

هـاتان ثنتان والزّهـراء ثالثـةٌ

والعلم أعظم شيءٍ وهو رابعها

وقفت حافلتانا على حافة نهر الوادي الكبير، فألقينا عليه نظرة في حب وولاء، ووددت لو نزلت فيه وبللت بمائه جسدي وروحي، فإنه متصل السلسلة بأجساد طاهرة وأرواح زكية تغلغل حبها في أحشائي وتمكن من نفسي وقلبي، فما منظر الحسناء عندي برائق، ولا نيلها والقرب عندي بمغنم، وأصبحت مثالا لشعر إقبال "يا أيها النهر الجاري في الوادي الكبير، إن الواقف اليوم على حافتك لحالم برؤيا عهد آخر".

ثم وصلنا إلى قنطرته المعروفة بقنطرة الدهر، بناها السمح بن مالك الخولاني والي الأندلس في عهد الخليفة الراشد أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز سنة 101ه، ثم عني أمراء بني أمية بتشييدها في تحسين وإبداع، وصفها ابن الوردي في خريدة العجائب وفريدة الغرائب فقال: "وبمدينة قرطبة القنطرة العجيبة التي فاقت قناطر الدنيا حسناً وإتقاناً". وقال الإدريسي في نزهة المشتاق في اختراق الآفاق: "ولقرطبة القنطرة التي علت القناطر فخراً في بنائها وإتقانها".

ولما قطعنا نصف القنطرة وقفنا نسرح أبصارنا في الوادي الكبير، وأسائل القنطرة فعيت جوابا، متصورا أولئك العرب الفرسان الفاتحين الغر الميامين المتصفين بالخلق العظيم أصحاب الصدق واليقين، الزاهدين في الدنيا والراغبين في الآخرة، والذين قاموا بتعليم العرب والعجم، وتربية الشرق والغرب، وكانت عقولهم وأفكارهم منارات في ظلام أوربا القاتم، وتذكرت دخولهم في ديار الأندلس فرحين مسرورين، وأردت أن أنوح وأبكي، فنوح البكاة شبيه بترنم الشداة، وصوت النعي شقيق صوت البشير.

تجولنا في شوارع قرطبة القديمة حيث لا تزال بيوت الأمراء العرب، ومجالس عباقرة العلوم والفنون، ومخابر المتخصصين في علوم الطبيعة والفلك والكيمياء والطب، ودور أئمة الحديث والفقه، واحتككنا بسكانها وكأنهم فروع من تلك الأصول عاكسة لأخلاقها ومحاسنها، ولله در إقبال إذ قال: "إنه لمن فضل دماء أولئك العرب أن الأندلسيين لا يزالون مبسوطي القلوب، حارِّي الاستقبال، ليِّني الطباع مُشرقي الجباه، ولا يزال إلى الآن في هذه البلاد عيون الغزال، وسهام أبصارها مصوبة إلى القلوب، ولا يزال إلى اليوم شذى اليمن في أجوائها، وترنيمة الحجاز في أناشيدها وأغانيها".

يا قرطبة! أرعاك بالود الذي لا يذم، وأراك بعين لحظها بعيد عن الكَلَم، وفي نظري عنوان ما بين الأضلع والسرائر، ورب لحاظ نائب عما تكنه الصدور والضمائر، ولولاك لشمخت بغداد بأنفها وتكبرت، ولما نافستها مدينة من مدن العالم شرقا ولا غربا، ولا لحقت بها حضارة ولا مدنية، وأولى بلاد بالمقام من الدنيا بلاد ضمت جوانحها ذكرى حبيب ومنزل، يا قرطبة! تحدث المؤرخون عن جامعتك ومدارسك، ومكتباتك اللاتي بلغت السبعين، اصدقيني يا قرطبة! أليسوا قد كذبوا؟، ألم يكن كل عالم من علمائك مدرسة وجامعة؟ أو لم يكن كل مسجد بل كل عمود من أعمدته مركزا للعلم والأدب؟ أو لم يحو كل بيت من بيوتك وكل قصر من قصور أمرائك مكتبة؟

يا قرطبة! أصحيح أنك واريت أبا القاسم الزهراوى (ت 404هـ)، وابن حزم الظاهري (ت 456هـ)، وأبا عمر ابن عبد البر (ت 463 هـ)، وابن حيان المؤرخ (ت 469ه)، وأبا عبد الله محمد بن محمد الإدريسي الهاشمي القرشي (ت 560ه)، وأبا الوليد ابن رشد (ت595 هـ)، وإخوانهم؟ يا قرطبة! إن كنت قد واريتِهم فكيف واريتِ علومهم وفنونهم وقد كان منها الشرق والغرب ملآن، البروالبحر مترعا؟ بلى قد وسعتْهم مقابرك وهم أموات، ولو كانوا أحياء لضاقت بهم أفنيتك حتى تتصدع تصدعا. يقول حالي: "لا يزال حظ أولئك العرب راقدا في إشبيلية، ولا تزال قرطبة باكية في ذكراهم ليلا ونهارا".

فوا لهفي كم لي على قرطبة شهقة تذوب عليها قطعة من فؤادي، فيا أفنيتها ودورها سأكسوكن العبرات الفائضات والدموع الجاريات، ترحلتُ عنكن، لي نظرة أمامي، وعشر عشر نحوكن ورائي، وأصبح الركب المحب لسلفكن قد غدا، وإن فراق أولئك الأحبة أمضى من الردى.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين