رحلة الأندلس -2-

 

الفتح

 

فتح الفتوح تعالى أن يحيط به

                                  نظم من الشعر أو نثر من الخطب

?دخل الإسلام في بلاد الأندلس كقوة عسكرية سنة 92/711، أي السنة التي غزا فيها محمد بن قاسم الثقفي بلاد السند والهند، واستمر حكم المسلمين بها إلى سنة 897/1492م نحو ثمانية قرون، وقد سبق الوجود الإسلامي غير السياسي وغير العسكري فيها فتْحَها، وظلت أمم من أُباة النفوس، رابطي الجأش، وثابتي القلوب، الصابرين على دينهم كالقابض على الجمر، أمثلةِ أصحاب الكهف والرقيم، تتوارثه متعاقبةً عليه متتابعةَ إلى يومنا هذا، فرحمة الله وسلامه وصلواته على أولئك الرجال والنساء والولدان والشيوخ.

?كان أبو عبد الرحمن موسى بن نصير(ت 97 هـ/716م) قائدا من قواد بني أمية، شارك في فتح قبرص في عهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، واستولاه الوليد بن عبد الملك على إفريقية، فأمر نائبه على طنجة طارق بن زياد من قبيلة نفزة البربرية بفتح شبه الجزيرة الأيبيرية، فركب البحر في سبعة آلاف مقاتل حاملي بيض الصفائح وشهب الأرماح سنة 92ه:

أشباح  جن  فوق  صدر الماء

                                  تهفو بأجنحة من الظلماء

أم تلك عقبان السماء وثبن من

                                  قنن الجبال على الخضم النائي

?ونزل طارق على الجبل المعروف باسمه:

يا شامخاً في الأفق حدث

                                  فالحديث العذب رائق

حدث عن الأبطال للأجيال

                                  والعصر اللواحق

?وهزم فرقةً من جيش القوط، فهرب زعيمها فزعا مذعورا وأرسل إلى لُذريق ملك النصارى في طليطلة يقول: "أدركْنا فإنه نزل علينا قوم لا ندري هم من أهل الأرض أم من أهل السماء"، فخرج لذريق بعساكره وعُتده وعُتاده في كبريائه وعِناده، وسار طارق إليه، وقيل: إنه أحرق المراكب وقال لأصحابه: "قاتلوا أو موتوا". ولعل قصة إحراق السفن توهَّمها بعضهم من خطبته الآتية، وإلا فكيف يحرقها وهي مال المسلمين، وعليها معوَّلهم في الإمداد والحمل والنقل، أو لعل نشوء التصوف الغالي الجاهل بمعنى السبب كان وراء انتشار هذه الخرافة.

?وقام طارق بن زياد في أصحابه يرغِّبهم في القتال نادبًا إليه مُشوِّقًا، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وقال: أيها الناس! أين المفر؟ والبحر من ورائكم والعدوُّ أمامكم، فليس لكم والله إلاَّ الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مآدب اللئام، وقد استقبلتم عدوَّكم بجيشه وأسلحته، وأقواتُه موفورة، وأنتم لا وَزَرَ لكم غير سيوفكم، ولا أقوات لكم إلا ما تستخلصونه من أيدي أعدائكم، وإن امتدَّت بكم الأيام على افتقاركم، ولم تنجزوا لكم أمرًا، ذهبت ريحكم، وتعوَّضت القلوبُ من رعبها منكم الجراءةَ عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية، فقد ألقته إليكم مدينته المحصنة، وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن لكم إن سمحتم بأنفسكم للموت، وإني لم أحذركم أمرا أنا عنه بنجوة، ولا حملتكم على خطة أرخص متاع فيها النفوسُ إلا وأنا أبدأ بنفسي.

?وقاتل طارق وأبطاله عساكر لذريق سَامِين نحوها يبتدرونها بأسيافهم ورماحهم، وانتصروا عليها فالِّين حدَّها كاسرين شوكتَها داحِرين قوَّتَها، وتفتحت للمسلمين أبواب البركات أرضًا وسماءًا، وارتعدت النصارى شائبةً نواصيها، مختلطة أيامها في شدة ظلمائها بلياليها، وشمخ جد بني الإسلام صعدًا، وتحدر كِفل بني الشرك صببا، وتوغل طارق في فتح البلاد واحدة تلو الأخرى، ولم يغز قومًا ولم ينهض إلى بلد إلا تقدمه جيش من الرعب، حتى استولى على قرطبة وطليطلة في أوائل سنة 93ه، ثم فتح هو وموسى بن نصير معظم بلاد الأندلس بما فيها البيرة، وإشبيلية، ويرشلونة.

?وتوقف الغزو لفترة قصيرة حتى تولى عبد الرحمن بن عبد الله بن بشر بن الصارم الغافِقِي (ت 114هـ/732م) أمر الجزيرة، وكان من صالحي التابعين ومن كبار الغزاة الباسلين، وحالفته الانتصارات إلى أن خاض بفرسانه الأبطال أُسُود الغاب التي هِمَّتها يوم الكريهة في المسلوب وصرعى الرجال لا السَّلَب والغنائم والأنفال، واديَ الرون إلى عمق فرنسا حيث نهر اللوار، وقاتل قتالا شديدا مُقدِما غيرَ متأخر يستبقي العيشة القليلة الزائلة، غيرَ دامية كلومُه على أعقابه ولكن تقطر على أقدامه الدماء، وقُتل في معركة بلاط الشهداء والتي يسميها الغربيون معركة بواتيه سنة 114/732 فائزا بالحسنيين، رحمه الله رحمة واسعة، ولو هُزم الفرنسيون بها لاقتحم المسلمون سائر بلاد أوروبا اقتحاما ولكان للتاريخ مجرى غير مجراه. يقول جيبون المؤرخ الإنكليزي: "إن بواتيه أنقذتْ آباءنا الإنكليز وجيراننا الفرنسيين من نِير القرآن المدني والديني، وحفظتْ جلال رومة، وأخَّرتْ استعباد القسطنطينية، وفرَّقت بين المسلمين، ولو انتصر المسلمون في بواتيه ما كان شيء يقف أمامهم بعد ذلك". ويقول السير إدوارد كريزي: "إن النصر العظيم الذي حقَّقه شارل مارتل على العرب سنة 732م وضع حدًّا حاسمًا لفتوح العرب في غرب أوروبا، وأنقذ النصرانية من الإسلام". ويقول فون شليجل: "أنقذ مارتل بسيفه أمم الغرب النصرانية من قبضة الإسلام".

?قلت: يا أيها المبغضون للصراط المستقيم الحاقدون عليه من أمم أوربا وشعوبها! لو أدركتم قيمة القرآن الكريم والرسالة المحمدية ورحبتم بدين الله لما رضيتم بالغي والشقاء، ولظفرتم بالسعادتين، وخرجتم من عبادة العباد والمخلوقات إلى عبادة الله وحده، ومن جور الأديان وزيغها إلى عدل الإسلام واستقامته، ومن ضيق الدنيا وظلامها إلى سعة الآخرة وبحبوحتها. فلا بارك الله في الجهل والضلال، وتعسًا للعصبية العمياء والكراهية البغضاء، وتبًّا لمن أخلد إلى الأرض وآثر الحياة الدنيا وضل سعيه فيما يبيد ويفنى، ذلك مبلغهم من العلم، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى.

الحلقة السابقة هــــــــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين