رحلة الأندلس -12- نساء الأندلس

?تقدمت نساء الأندلس في العلم والأدب والثقافة تقدما كبيرا، و كان لهن سهم أوفر في قراءة القرآن الكريم، وسماع الحديث، والفقه وسائر العلوم والفنون، وقد ذكر ابن حزم في كتابه (طوق الحمامة في الألفة والألاّف) أن النساء في الأندلس كن يعملن في مهن متعددة، منها الطب والدلالة والتعليم والصنائع كالغزل والنسيج، وقد ذكر فيه أنه تعلم عليهن في صغره، وإليكم تراجم بعضهن.

 

أم الحسن بنت أبي لواء القرطبية:

?أم الحسن بنت أبي لواء سليمان بن أصبغ بن عبد الله بن وانسوس بن يربوع المكناسي، مولى سليمان بن عبد الملك القرطبية العالمة الزاهدة. ?قال ابن الأبار: كان عبد الله جد أبيها خيرا فاضلا، وكانت له رحلة، حج فيها، وله المقام المأثور يوم الهيج، وكان ذلك يوم جمعة، فلجأ إليه بشر كثير، أغلق عليهم باب مسجده، وكتب إلى الأمير الحكم يسأله تأمينهم، ويعلمه أنهم قد صاروا في حر من حرمات الله فأمنهم، وسكن روعتهم بجواب كتبه إليه.

?روت عن بقي بن مخلد، سمعت منه، وصحبته، وقرأت عليه بلفظها كتاب الدهور، وحضر ذلك ابنه أبو القاسم أحمد بن بقي، وهو يمسك عليها كتاب الشيخ.?قال الأمير عبد الله بن الناصر عبد الرحمن بن محمد في المسكنة: كانت الزاهدة ابنة أبي لواء تسمع في داخل دار أبي عبد الرحمن منه يوما في الجمعة منفردة بدولتها، يعني بقي بن مخلد، وقال ابن الأبار: ولها رحلة حجت فيها، وكانت امرأة صالحة زاهدة فاضلة عاقلة، وقع ذكرها في كتاب فضائل بقي بن مخلد.?وذكرها الرازي فقال: حجت وسمعت الفقه والحديث وقد سمع منه بقي بن مخلد، ثم حجت حجة ثانية فتوفيت بمكة ودفنت هنالك، وقال ابن الأبار: هكذا قال، وسماع بقي منها غلط في ظني، والصحيح سماعها منه.

?قال أبو عبد الله الأوسي: روت عن بقي بن مخلد سماعا منه وقراءة عليه وصحبته، وكان لها منه يوم في الجمعة تنفرد به لأخذ العلم في داره ومما قرأت عليه بلفظها كتاب الدهور، وأبو القاسم أحمد ابنه يمسك أصل الشيخ، وكانت صالحة زاهدة فاضلة عاقلة وحجت وسمعت هنالك الحديث والفقه وعادت إلى الأندلس، ثم حجت ثانية.

?قلت: سماعها من بقي بن مخلد (ت 276هـ) مفخرة كبيرة لها، وشاهد على حبها للسنة وأهلها، فقد سمع بقي من يحيى بن يحيى الليثي بن عبد الله بن بكير ومحمد بن عيسى الأعشى وأبي مصعب الزهري وصفوان بن صالح وإبراهيم بن المنذر الحزامي وهشام بن عمار وزهير بن عباد الرؤاسي ويحيى بن عبد الحميد الحماني ومحمد بن عبد الله بن نمير وأحمد بن حنبل، وأبي بكر بن أبي شيبة، وجبارة بن المغلس ويحيى بن بشر الحريري وشيبان بن فروخ وسويد بن سعيد وهدبة بن خالد ومحمد بن رمح وداود بن رشيد ومحمد بن أبان الواسطي وحرملة بن يحيى وإسماعيل بن عبيد الحراني ويعقوب بن حميد بن كاسب وعيسى بن حماد زغبة وسحنون بن سعيد الفقيه وهريم بن عبد الأعلى ومنجاب بن الحارث وعثمان بن أبي شيبة وعبيد الله القواريري وأبي كريب وبندار وهناد والفلاس وكثير بن عبيد وخلق.

?قال الرازي: كان لبني وانسوس نساء متقدمات في الخير والفضل والورع والنسك، حج منهن ست نسوة، وهن أم الحسن بنت أبي لواء، وكلبية زوج أصبغ بن عبد الله بن وانسوس، وأمة الرحمن وأمة الرحيم ابنتا أصبغ هذا، ورقية ابنة محمد بن أصبغ، وعائشة ابنة عمر بن محمد بن أصبغ.?وقال ابن الأبار: ونظيرة أم الحسن هذه أخت القاضي منذر بن سعيد البلوطي لم أقف على اسمها، كانت مقيمة بفحم البلوط بلدهم، من خيرات النساء، فاضلة متعبدة في مسجدها لصق بيتها، يقصدها عجايز ناحيتها وصوالح نسائهم للذكر والتفقه في الدين، ودراسة سير العابدين، فكان لها ببلدها شأن كبير، ذكر ذلك ابن حيان.

?توفيت بمكة شرفها الله. (انظر: ابن الأبار: تكملة صلة الصلة 40، كتاب الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة (السفر الثامن) ص 481، وأعلام النبلاء 13/285-296).

 

خديجة الشنتجيالية:

?خديجة بنت أبي محمد عبد اللّه بن سعيد الشنتجيالي، وسمعت مع أبيها من الشيخ أبي ذر عبد بن أحمد الهروي صحيح البخاري وغيره، وشاركت لأبيها هنالك في السماع من شيوخه بمكة حرسها اللّه.?قال ابن بشكوال: رأيت سماعها في أصول أبيها بخطه، وقدمت معه الأندلس، وماتت بها رحمها اللّه.

وشيخها هو الحافظ الإمام المجود العلامة شيخ الحرم أبو ذر عبد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن غفير بن محمد المعروف ببلده بابن السماك الأنصاري الخراساني الهروي المالكي صاحب التصانيف ورواي الصحيح عن الثلاثة المستملي والحموي والكشميهني، ولد سنة خمس أو ست وخمسين وثلاث مئة، سمع أبا الفضل محمد بن عبد الله بن خميرويه وبشر بن محمد المزني وعدة بهراة وأبا بكر هلال بن محمد بن محمد وشيبان بن محمد الضبعي بالبصرة وعبيد الله بن عبد الرحمن الزهري وأبا عمر بن حيويه وعلي بن عمر السكري وأبا الحسن الدارقطني وطبقتهم ببغداد وعبد الوهاب الكلابي ونحوه بدمشق وأبا مسلم الكاتب وطبقته بمصر وزاهر ابن أحمد الفقيه بسرخس وأبا إسحاق إبراهيم بن أحمد المستملي ببلخ وأبا إسحاق إبراهيم بن محمد بن أحمد بن عثمان الدينوري وغيره بمكة، مات سنة أربع وثلاثين وأربع مئة.

قالت خديجة: أخبرنا أبو ذر الهروي الإمام الحافظ، أنا الشيوخ الثلاثة المستملي والحموي والكشميهني، قالوا: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطر الفربري، قال: أخبرنا محمد بن إسماعيل البخاري الإمام الحافظ، حدثنا حبان بن موسى، أخبرنا عبد الله، أخبرنا معمر عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضى الله تعالى عنه، قال: شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل ممن معه يدعي الإسلام: هذا من أهل النار، فلما حضر القتال قاتل الرجل من أشد القتال وكثرت به الجراح فأثبتته، فجاء رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أرأيت الذي تحدثت أنه من أهل النار قد قاتل في سبيل الله من أشد القتال فكثرت به الجراح؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه من أهل النار، فكاد بعض المسلمين يرتاب، فبينما هو على ذلك إذ وجد الرجل ألم الجراح، فأهوى بيده إلى كنانته فانتزع منها سهما فانتحر بها، فاشتد رجال من المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله! صدق الله حديثك، قد انتحر فلان فقتل نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بلال! قم فأذن: لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر. (انظر: ابن بشكوال: كتاب الصلة ?/???، وسير أعلام النبلاء 17/554-563).

 

طونة بنت عبد العزيز:

?طونة بنت عبد العزيز بن موسى بن طاهر بن مناع، وتكنى بحبيبة، وكان مولدها سنة سبع وثلاثين وأربع مائة، وهي زوج أبي القاسم بن مدبر الخطيب المقرئ.

?وأخذت عن أبي عمر بن عبد البر الحافظ كثيرا من كتبه وتواليفه، وعن أبي العباس أحمد بن عمر العذري الدلاي، وسمع زوجها أبو القاسم المقرئ بقراءتها عليه.

?قال ابن بشكوال: كانت حسنة الخط فاضلة دينة، وقال الذهبي: طونة بنت عبد العزيز بن موسى بن طاهر، العالمة، زوجة أبي القاسم بن مدبّر، أخذت عن أبي عمر بن عبد البر، وكتبت تصانيفه، وكانت حسنة الخط، عاشت سبعين سنة.

?توفيت، رحمها اللّه، سنة ست وخمس مائة.

قالت طونة: أخبرنا أبو عمر، أخبرنا سعيد بن نصر، حدثنا قاسم بن أصبغ، حدثنا محمد بن وضاح، حدثنا يحيى بن يحيى، حدثنا مالك، عن يحيى بن سعيد، أخبرني عبادة بن الوليد بن عبادة، عن أبيه، عن جده، قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في اليسر والعسر والمنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول أو نقوم بالحق حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم.

وقالت طونة: أخبرنا يوسف بن عبدالله الحافظ، أخبرنا خلف بن القاسم، حدثنا الحسن بن رشيق، حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن يونس، حدثنا محمد بن عبدالأعلى، حدثنا سلمة بن رجاء، عن الوليد بن جميل، عن القاسم، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في البحر ليصلون على معلم الخير. 

?وقالت طونة: أنبأنا ابن عبدالبر، حدثنا محمد بن عبدالملك، حدثنا أبو سعيد بن الأعرابي، حدثنا إبراهيم العبسي، عن وكيع، عن الأعمش، قال: حدثنا أبو خالد الوالبي قال: كنا نجالس أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيتناشدون الأشعار، ويتذاكرون أيام الجاهلية. (انظر: ابن بشكوال: كتاب الصلة ?/???، والإمام الذهبي: تاريخ الإسلام (حوادث ووفيات 501-510) ص ???)

 

أم هانئ أمة الرحمن:

?أم هانئ أمة الرحمن ابنة القاضي أبي محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن غالب بن تمام بن عبد الرؤوف بن عبد الله بن تمام بن خالد ابن عطية المحاربي، من محارب قيس، الغرناطي.

?قال أبو عبد الله الأوسي بعد ذكر نسبها حسب السياق السابق: كذا وقفت على اسمها وكنيتها وبعض نسبها بخطها، وقال فيها ابن الأبار: أم الهناء، ولم يسمها، وقد أتينا باسمها وكنيتها على الصواب.

?أبوها القاضي الإمام العلامة شيخ المفسرين أبو محمد عبدالحق واحد من كبراء عصره، وعلماء مصره، وقضاة وقته، حدث عن أبيه وعن الحافظ أبي علي الغساني ومحمد بن الفرج مولى ابن الطلاع وأبي الحسين يحيى بن أبي زيد المقرئ ابن البياز وعدة، وكان إماما في الفقه وفي التفسير وفي العربية قوي المشاركة ذكيا فطنا مدركا من أوعية العلم مولده سنة ثمانين وأربع مئة اعتنى به والده ولحق به الكبار وطلب العلم وهو مراهق وكان يتوقد ذكاء ولي قضاء المرية في سنة تسع وعشرين وخمس مئة حدث عنه أولاده وأبو القاسم بن حبيش الحافظ وأبو محمد بن عبيدالله وأبو جعفر بن مضاء وعبدالمنعم بن الفرس وأبو جعفر ابن حكم وآخرون توفي بحصن لورقة في الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة إحدى وأربعين وخمس مئة، وقال الحافظ خلف بن بشكوال: توفي سنة اثنتين وأربعين، وقال: كان واسع المعرفة قوي الأدب متفننا في العلوم أخذ الناس عنه رحمه الله تعالى.

?أخذت عن أبيها وأُخِذ عنها، ذكرها الملاحي وقال: روت عن أبيها، وقرأت وتأدبت.

?وعُني أبوها بها عناية فائقة، وتحرجت في مدرسته العلمية التي كانت تضمّ كبراء علماء عصره، وأدباء مصره، وفقهاء قرطبة ومن حولها، فنشأت النشأة الكريمة، وكانت أحدوثة طيبة، وقدوة مثلى لبنات عصرها، حيث كانت مثالاً كريمًا يُحتذى للمرأة المثقفة والتي نالت من علوم الدين والتفسير حظًّا وافرًا لا يُستهان به.

?وقال الملاحي: كانت تحت أبي علي الحسن بن حسان القضاعي، وقال أبو عبد الله الأوسي: وكانت من المنجبات، تزوجها أبو علي الحسن بن محمد ابن حسان، فولدت له أبا جعفر أحمد مصنف الجمل والتفصيل في تدبير الصحة في الإقامة والرحيل، وخلفه عليها أبو عبد الرحمن محمد بن طاهر، فولدت له أبا جعفر عبد الحق مؤلف الأصول في صناعة العدد العملية.

?وألفت كتابًا في القبور والمحتضرين، أجادت فيه وأتقنت، وكانت كاملة في النساء لها خط حسن، ومعرفة جيدة، قال: وقفت على تأليفها بخطها، والإصلاح فيه بخط أبيها، قال: ورأيت تأليفها هذا عند ابنها الفقيه الحاج الطبيب الفاضل، الأديب الماهر أبي جعفر أحمد بن الحسن بن حسان، وقال أبو عبد الله الأوسي: ولها مصنف في القبور، وآخر في الأدعية، وفيه وقفت على اسمها وكنيتها كما ذكرت مجيزة فيه من أخذ عنها.

?قال أبو عبد الله الأوسي: وكانت من أهل الفهم والعقل، جيدة الخط، حاضرة النادرة، سريعة التمثل، دخل أبوها داره بغرناطة وقد قلد قضاء المرية وعيناه تدمعان أسفًا لمفارقة وطنه فأنشدته متمثلة:

يا عين صار الدمع عندك عادة ??تبكين في فرح وفي أحزان

?وقال الأوسي: وهذا البيت من أبيات وهي:

جاء الكتاب من الحبيب بأنه?? سيزورني فاستعبرت أجفاني

غلب السرور علي حتى إنه?? من فرط عظم مسرتي أبكاني

يا عين صار الدمع عندك عادة ??تبكين في فرح وفي أحزان

فاستقبلي بالبشر يوم لقائه?? ودع الدموع لليلة الأحزان.

(انظر: كتاب الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة (السفر الثامن) ص 478، و أبو جعفر أحمد الغرناطي: كتاب صلة الصلة (القسم الخامس) ص 311، و سير أعلام النبلاء 19/587-588)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين