رحلة الأندلس -11- رجال الأندلس

 

?لقد برز في أرض الأندلس خلال ثمانية قرون من حكم المسلمين فيها أئمة أعلام مجتهدون، وعباقرة باحثون محققون في العلوم الإسلامية والفنون اللغوية والأدبية والعقلية يفوقون العد والإحصاء، وإنما اخترت هنا ثلاثة منهم ممن أراهم أشهر من غيرهم، وإن خالفني مخالف في هذا الاختيار لم أمنعه ولم أعارضه، وللناس فيما يعشقون مذاهب.

 

ابن حزم (384-456)

 

أنا الشمس في جو العلوم منيرة

ولكن عيبي أن مطلعي الغرب

ولو أنني من جانب الشرق طالع

لجد على ما ضاع من ذكري النهب

?الإمام الأوحد، البحر، ذو الفنون والمعارف أبو محمد، علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، الفارسي الأصل، ثم الأندلسي القرطبي، الفقيه الحافظ، المتكلم، الأديب، الوزير، الظاهري، صاحب التصانيف، سمع في سنة أربعمائة وبعدها من طائفة، وأجود ما عنده من الكتب سنن النسائي ، يحمله عن ابن ربيع، عن ابن الأحمر، عنه. وأنزل ما عنده صحيح مسلم، بينه وبينه خمسة رجال، نشأ في تنعم ورفاهية، ورزق ذكاء مفرطا، وذهنا سيالا، وكتبا نفيسة كثيرة، وكان والده من كبراء أهل قرطبة، عمل الوزارة في الدولة العامرية، وكذلك وزر أبو محمد في شبيبته، وكان قد مهر أولا في الأدب والأخبار والشعر، وفي المنطق وأجزاء الفلسفة، فأثرت فيه تأثيرا، قيل: إنه تفقه أولا للشافعي، ثم أداه اجتهاده إلى القول بنفي القياس كله جليه وخفيه، والأخذ بظاهر النص وعموم الكتاب والحديث، والقول بالبراءة الأصلية، واستصحاب الحال، وصنف في ذلك كتبا كثيرة، وناظر عليه، وبسط لسانه وقلمه، ولم يتأدب مع الأئمة في الخطاب، بل فجج العبارة، وسب وجدع فكان جزاؤه من جنس فعله، بحيث إنه أعرض عن تصانيفه جماعة من الأئمة وهجروها، ونفروا منها، وأحرقت في وقت، واعتنى بها آخرون من العلماء، وفتشوها انتقادا واستفادة، وأخذا ومؤاخذة، ورأوا فيها الدر الثمين ممزوجا في الرصف بالخرز المهين، فتارة يطربون، ومرة يعجبون، ومن تفرده يهزءون. وفي الجملة فالكمال عزيز، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

? وكان ينهض بعلوم جمة، ويجيد النقل، ويحسن النظم والنثر. وفيه دين وخير، ومقاصده جميلة، ومصنفاته مفيدة، وقد زهد في الرئاسة ولزم منزله مكبا على العلم، قال الإمام أبو القاسم صاعد بن أحمد: كان ابن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام، وأوسعهم معرفة مع توسعه في علم اللسان، ووفور حظه من البلاغة والشعر، والمعرفة بالسير والأخبار، أخبرني ابنه الفضل أنه اجتمع عنده بخط أبيه أبي محمد من تواليفه أربعمائة مجلد، تشتمل على قريب من ثمانين ألف ورقة، وقال أبو عبد الله الحميدي :كان ابن حزم حافظا للحديث وفقهه، مستنبطا للأحكام من الكتاب والسنة، متفننا في علوم جمة، عاملا بعلمه، ما رأينا مثله فيما اجتمع له من الذكاء وسرعة الحفظ، وكرم النفس والتدين، وكان له في الأدب والشعر نفس واسع وباع طويل، وما رأيت من يقول الشعر على البديه أسرع منه، وشعره كثير جمعته على حروف المعجم. ولابن حزم مصنفات جليلة أكبرها كتاب الإيصال إلى فهم كتاب الخصال، خمسة عشر ألف ورقة، وكتاب الخصال الحافظ لجمل شرائع الإسلام، مجلدان، وكتاب المجلى في الفقه مجلد، وكتاب المحلى في شرح المجلى بالحجج والآثار، ثماني مجلدات، و كتاب الإحكام لأصول الأحكام، مجلدان، وكتاب الفصل في الملل والنحل، مجلدان كبيران، وغير ذلك.  (انظر: سير أعلام النبلاء 18/184-212).

 

من إفاداته:

?قال في مقدمة المحلى: ولا يحلّ القول بالقياس في الدّين ولا بالرّأي لأنّ أمر اللّه تعالى عند التّنازع بالرّدّ إلى كتابه وإلى رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم قد صحّ، فمن ردّ إلى قياسٍ وإلى تعليلٍ يدّعيه أو إلى رأيٍ فقد خالف أمر اللّه تعالى المعلّق بالإيمان وردّ إلى غير من أمر اللّه تعالى بالرّدّ إليه، وفي هذا ما فيه. قال عليٌّ: وقول اللّه تعالى: (ما فرّطنا في الكتاب من شيءٍ) وقوله تعالى: (تبيانًا لكلّ شيءٍ) وقوله تعالى (لتبيّن للنّاس ما نزّل إليهم) وقوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم) إبطالٌ للقياس وللرّأي؛ لأنّه لا يختلف أهل القياس والرّأي أنّه لا يجوز استعمالهما ما دام يوجد نصٌّ، وقد شهد اللّه تعالى بأنّ النّصّ لم يفرّط فيه شيئًا، وأنّ رسوله عليه الصّلاة والسّلام قد بيّن للنّاس كلّ ما نزّل إليهم، وأنّ الدّين قد كمل فصحّ أنّ النّصّ قد استوفى جميع الدّين، فإذا كان ذلك كذلك فلا حاجة بأحدٍ إلى قياسٍ ولا إلى رأيه ولا إلى رأي غيره.

?وقال: وقد عارضناهم في كلّ قياسٍ قاسوه بقياسٍ مثله وأوضح منه على أصولهم لنريهم فساد القياس جملةً، فموّه منهم مموّهون بأن قالوا: أنتم دأبًا تبطلون القياس بالقياس، وهذا منكم رجوعٌ إلى القياس واحتجاجٌ به، وأنتم في ذلك بمنزلة المحتجّ على غيره بحجّة العقل ليبطل حجّة العقل وبدليلٍ من النّظر ليبطل به النّظر قال عليٌّ: فقلنا هذا شغبٌ سهلٌ إفساده وللّه الحمد، ونحن لم نحتجّ بالقياس في إبطال القياس، ومعاذ اللّه من هذا، لكن أريناكم أنّ أصلكم الّذي أثبتّموه من تصحيح القياس يشهد بفساد جميع قياساتكم. ولا قول أظهر باطلًا من قولٍ أكذب نفسه.

?وقال: ولا يحلّ لأحدٍ أن يقلّد أحدًا، لا حيًّا ولا ميّتًا، وعلى كلّ أحدٍ من الاجتهاد حسب طاقته، فمن سأل عن دينه فإنّما يريد معرفة ما ألزمه اللّه عزّ وجلّ في هذا الدّين، ففرض عليه إن كان أجهل البريّة أن يسأل عن أعلم أهل موضعه بالدّين الّذي جاء به رسول اللّه - صلّى اللّه عليه وسلّم -، فإذا دلّ عليه سأله، فإذا أفتاه قال له هكذا قال اللّه عزّ وجلّ ورسوله؟ فإن قال له نعم أخذ بذلك وعمل به أبدًا، وإن قال له هذا رأيي، أو هذا قياسٌ، أو هذا قول فلانٍ، وذكر له صاحبًا أو تابعًا أو فقيهًا قديمًا أو حديثًا، أو سكت أو انتهره أو قال له لا أدري، فلا يحلّ له أن يأخذ بقوله، ولكنّه يسأل غيره. برهان ذلك قول اللّه عزّ وجلّ: (أطيعوا اللّه وأطيعوا الرّسول وأولي الأمر منكم) فلم يأمرنا عزّ وجلّ قطّ بطاعة بعض أولي الأمر، فمن قلّد عالمًا أو جماعة علماء فلم يطع اللّه تعالى ولا رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم ولا أولي الأمر، وإذا لم يردّ إلى من ذكرنا فقد خالف أمر اللّه عزّ وجلّ ولم يأمر اللّه عزّ وجلّ قطّ بطاعة بعض أولي الأمر دون بعضٍ.

 

ابن رشد (520-595)

 

?العلامة، فيلسوف الوقت أبو الوليد، محمد بن أبي القاسم أحمد ابن شيخ المالكية أبي الوليد محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد القرطبي،  عرض الموطأ على أبيه، وأخذ عن أبي مروان بن مسرة وجماعة، وبرع في الفقه، وأخذ الطب عن أبي مروان بن حزبول ثم أقبل على علوم الأوائل وبلاياهم، حتى صار يضرب به المثل في ذلك. قال الأبار: لم ينشأ بالأندلس مثله كمالا وعلما وفضلا، وكان متواضعا، منخفض الجناح، يقال عنه: إنه ما ترك الاشتغال مذ عقل سوى ليلتين: ليلة موت أبيه، وليلة عرسه، وإنه سود في ما ألف وقيد نحوا من عشرة آلاف ورقة، ومال إلى علوم الحكماء، فكانت له فيها الإمامة. وكان يفزع إلى فتياه في الطب، كما يفزع إلى فتياه في الفقه، مع وفور العربية، وقيل: كان يحفظ ديوان أبي تمام والمتنبي. وله من التصانيف: بداية المجتهد في الفقه، و الكليات في الطب، وله كتاب تهافت التهافت، وأشياء أخرى.

? وولي قضاء قرطبة، فحمدت سيرته، قال ابن أبي أصيبعة في تاريخ الحكماء: كان أوحد في الفقه والخلاف، وبرع في الطب، وقيل: كان رث البزة، قوي النفس، وقال شيخ الشيوخ ابن حمويه: لما دخلت البلاد، سألت عن ابن رشد، فقيل: إنه مهجور في بيته من جهة الخليفة يعقوب، لا يدخل إليه أحد، لأنه رفعت عنه أقوال ردية، ونسبت إليه العلوم المهجورة، ومات محبوسا بداره بمراكش. (انظر: سير أعلام النبلاء 21/307-310).

 

من إفاداته:

?قال في مقدمة بداية المجتهد: فإنّ غرضي في هذا الكتاب أن أثبت فيه لنفسي على جهة التّذكرة من مسائل الأحكام المتّفق عليها والمختلف فيها بأدلّتها، والتّنبيه على نكت الخلاف فيها، ما يجري مجرى الأصول والقواعد لما عسى أن يرد على المجتهد من المسائل المسكوت عنها في الشّرع، وهذه المسائل في الأكثر هي المسائل المنطوق بها في الشّرع، أو تتعلّق بالمنطوق به تعلّقًا قريبًا، وهي المسائل الّتي وقع الاتّفاق عليها، أو اشتهر الخلاف فيها بين الفقهاء الإسلاميّين من لدن الصّحابة رضي اللّه عنهم إلى أن فشا التّقليد.

?وقال في مطلع كتابه تهافت التهافت: إن الغرض في هذا القول أن نبين مراتب الأقوال المثبتة في كتاب التهافت لأبي حامد في التصديق والإقناع وقصور أكثرها عن رتبة اليقين والبرهان.

?قال الغزالي في التهافت في حق الفلاسفة: "ما ذكرتموه تحكمات، وهي على التحقيق ظلمات فوق ظلمات". فعلّق عليه ابن رشد قائلا: "لا يبعد أن يعرض مثل هذا للجهال مع العلماء، وللجمهور مع الخواص، كما يعرض ذلك لهم في المصنوعات، فإن الصناع إذا أوردوا صفات كثير من مصنوعاتهم على العوام، وتضمنوا الأفعال العجيبة عنها هزئ بهم الجمهور وظنوا أنهم مبرسمون، وهم في الحقيقة الذين ينزلون منزلة المبرسمين من العقلاء، والجهال من العلماء وأهل النظر"

?وقال الغزالي مخاطبا الفلاسفة: "تعرفونه بضرورة العقل أو نظره" فرد ابن رشد عليه قائلا: "هذا القول من الأقاويل الركيكة الإقناع، وذلك أن حاصله هو أنه إذا ادعى مدع أن وجود فاعل بجميع شروطه لا يمكن أن يتأخر عنه مفعوله، فلا يخلو أن يدعي معرفة ذلك إما بالقياس، وإما أنه من المعارف الأولية. فإن ادعى ذلك بقياس وجب عليه أن يأتي به، ولا قياس هنالك. وإن ادعى أن ذلك مدرك بمعرفة أولية وجب أن يعترف به جميع الناس خصومهم وغيرهم، وهذا ليس بصحيح، لأنه ليس من شرط المعروف بنفسه أن يعترف به جميع الناس، لأن ذلك ليس أكثر من كونه مشهورا، كما أنه ليس يلزم فيما كان مشهورا أن يكون معروفا بنفسه".

 

الشاطبي (ت 790هـ)

 

?هو إبراهيم بن موسى بن محمد أبو إسحاق اللخمي الغرناطي المعروف بالشاطبي، أخذ عن كثير من العلماء من الغرناطيين والوافدين، ومن أبرز شيوخه ابن الفخار البيري المتوفى سنة 754هـ، وأبو جعفر الشقوري، وأبو سعيد بن لب المتوفى سنة 782هـ، وأبو عبد الله البلنسي المتوفى سنة782هـ. وأبو عبد الله الشريف التلمساني، وأبو عبد الله المقري، وأبو القاسم السبتي.

?حلاّه أحمد بابا التنبكتي بـ" الإمام العلامة المحقق القدوة الحافظ الجليل المجتهد،" وقال: كان أصوليا، مفسرا، فقيها، محدثا، لغويا، بيانيا، نظارا ثبتا، ورعا صالحا، زاهدا، سنيا، إماما مطلقا، بحاثا مدققا، جدليا بارعا في العلوم، من أفراد العلماء المحققين الأثبات، وأكابر الأئمة المتفننين الثقات، له القدم الراسخ، والإمامة العظمى في الفنون فقهًا وأصولا وتفسيرا وحديثا وعربية وغيرها، مع التحري والتحقيق، وعلى قدم راسخ من الصلاح والفقه والتحري والورع".

?وله كتاب الموافقات، وكتاب الإفادات والإنشادات، وكتاب الإعتصام في أهل البدع و الضلالات.

(انظر: أحمد بابا التنبكتي: نيل الابتهاج بتطريز الديباج بهامش الديباج لابن فرحون).

 

من إفاداته:

?قال في كتاب الاعتصام: ولقد زل بسبب الإعراض عن الدليل والاعتماد على الرجال أقوام خرجوا بسبب ذلك عن جادة الصحابة والتابعين، واتبعوا أهواءهم بغير علم، فضلوا عن سواء السبيل".

?وقال في الموافقات بحثا عن المصلحة والمفسدة: "إن وضع الشريعة إذا سُلّم أنها لمصالح العاباد فهي عائدة عليهم بحسب أمر الشارع وعلى الحد الذي حده، لا على مقتضى أهوائهم وشهواتهم، لذلك كانت التكاليف الشرعية ثقيلة على النفوس".

?وقال: "إن كون المصلحة مصلحة تقصد بالحكم، والمفسدة مفسدة كذلك مما يختص بالشارع، لا مجال للعقل فيه، بناءًا على قاعدة نفي التحسين والتقبيح".

?وقال في المسألة الثامنة من مسائل النوع الأول من مقاصد الشريعة: "المصالح المجتلبة شرعا والمفاسد المستدفعة شرعا إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية أو درء مفاسدها العادية".

?وقال في فصل مقاصد المكلف: "قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقا لقصده في التشريع، والدليل على ذلك ظاهر من وضع الشريعة، إذ قد مر أنها موضوعة لمصالح العباد على الإطلاق والعموم، والمطلوب من المكلف أن يجري ذلك في أفعاله، وألا يقصد خلاف ما قصد الشارع، ولأن المكلف خلق لعبادة الله، وذلك راجع إلى العمل على وفق القصد في وضع الشريعة، هذا محصول العبادة، فينال بذلك الجزاء في الدنيا والآخرة". (3/23-24).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين