رحلة الأندلس -10- بعد سقوط غرناطة

 

?يشغف الناس بقصص الغزاة الفاتحين الغزاة، وأحاديث الملوك والسلاطين، وأخبار الأمم الراقية وذويها الناهضين، ولكني مولع بمتابعة حياة رجال مؤمنين ونساء مؤمنات، مستضعفين يضحُّون بأموالهم وأنفسهم وبكل ورخيص في سبيل دينهم، ويصبرون على الأذى والظلم والاضطهاد في سبيل الله ابتغاء رضوانه، يحملون نفوسا أبيَّة شامخة صامدة صمود الجبال الراسيات، ترى الأنام مبهورين بجلال رومة الكبرى وأبهتها وشوكتها، وأراني مقتفيا آثار آل عمران الذين عاشوا مؤمنين صادقين مخبتين إلى ربهم منيبين في الإمبراطورية الرومية غير مبالين بها ولا مُوْلِين لها اهتماما، وما أعجب إليَّ أصحابَ الكهف والرقيم الذين آمنوا بربهم فزادهم هدى، ولم يملكوا من الأرض إلا مضاجعهم قانعين بها غير شاكِين ولا جزِعين، وفدتْ نفسي وما ملكت يميني سيد ولد آدم خاتم النبيين والمرسلين حبيب رب العالمين صلى الله عليه وسلم وأصحابه الغر الميامين رضي الله عنهم وهم مستضعفون في مكة المكرمة ثابتين على دينهم مستقيمين، لا يهمهم إلا فزع إلى صلاة أو لجوء إلى قرآن، ألسنتهم بذكر الله رطبة، وقلوبهم خاشعة وعيونهم باكية.

جسمي معي غير أن الروح عندكم

                                         فالجسم في غربة والروح في الوطن

فليعجب الناس مني أن لي بدنا

                                        لا روح فيه ولي روح بلا بدن

?أعقب سقوط غرناطة من المصائب والأرزاء للمسلمين ما يزلزل الشعوب الفاتكات والأمم العاتيات زلزلة، ويزعزع أقوياء الأجساد وبواسل النفوس زعزعة، جاليًا عن رجال ونساء وشباب وشيوخ صادقين ما عاهدوا الله عليه قاضين نجبهم غير مبدلين تبديلا، أحببتهم من أعماق قلبي، ملتذا بقوة إيمانهم وعظمة نفوسهم وطهارة قلوبهم، أغنياء عن العالمين فقراء إلى رب العالمين متوكلين عليه، هينة عليهم في المعالي نفوسهم، وخاطب الحسناء لا تغليه المهور.

?سقطت غرناطة فغدر الإسبانيون بعهودهم، ونقضوا مواثيقهم، وأحرقوا الكتب العربية إحراقا وجعلوها رمادا، مقصي المسلمين عن مصادر العلم والدين، قاضين عليهم كأمة الإيمان والرسالة، وقاتلين ثقافةً بكاملها ودافنين حضارةً برمتها، وفرضوا عليهم الضرائب القاسية دون من سواهم، ووزعوا أراضيهم على غيرهم، وفرقوا جموعهم وقبائلهم وشتتوا رهوطهم وبطونهم وبددوهم تبديدا.

?فتحركت حمية طوائف من المسلمين وقاموا بثورات ضد ظلم الظالمين وطغيان الطاغين، منها ثورة البيازين في غرناطة والتي سبق الحديث عنها، وتلتها ثورة منطقة البشرات الواقعة في جنوبي غرناطة، فأرسلت الحكومة الإسبانية حملة عسكرية للقضاء عليها، كلما مرت في طريقها على قرى المسلمين الذين لحقوا بإخوانهم الثائرين أضرمت فيها النيران وقد قتَّلت النساء والأطفال والشيوخ تقتيلا، ولقيت الحملة الإسبانية مقاومة عنيفة من المسلمين الذين دافعوا عن مدنهم ببسالة، فأمدت الحكومة بحملات تلو حملات، عجز المسلمون عن مواجهتها واقعين صرعى أو أسرى، وفي سنة 907هـ / 1502م أخمدت الثورات كلها إخمادا، واضطهد الإسبان المسلمين اضطهادًا لا نظير له، فنسفوا مساجدهم، وقتلوا نساءهم وأطفالهم، معلنين ضدهم حرب إبادة مكشوفة شاملة.

?ورافق ذلك تنفيذ سياسة التنصير القسري، ولعب الأحبار والرهبان في ذلك الدور الذي يتندى له جبين البشرية، وأقيمت محاكم التفتيش والتي كانت سلاحًا فتاكًا بيد الكنيسة تسحق به كل من لم يذعن لأوامرها، فلجأ كثير من المسلمين إلى المعاقل المنيعة في رؤوس الجبال شانِّين منها الغارات على القوات الإسبانية، ومحافظين على دينهم، واستسلم ضعفاؤهم استسلاما مظهرين المسيحية مبطنين الإسلام، وسرعان ما اكتشفت الكنائس عدم إخلاصهم للمسيحية فجددت عليهم أنواع التعذيب ملقبة إياهم الموريسكيين،  أي المسلمين الصغار، أو المنافقين، معاملة إياهم معاملة عبيد ومملوكين، سالبة إياهم سائر حقوقهم البشرية، مجبرة إياهم على ترك لغتهم وتقاليدهم وأسمائهم العربية، واستعمال اللغة والتقاليد والأسماء الإسبانية، ومحرمة عليهم ممارسة أي سنة أو عادة تمتُّ إلى عقيدتهم ولغتهم بصلة.

?واستغاث مسلمو الأندلس بالدول الإسلامية من المغرب، والخلافة العثمانية، وسلاطين المماليك في مصر، من دون أن يلقى صراخهم آذانا صاغية، خائبة آمالهم، فاشلة مساعيهم، فلم يبق أمامهم إلا الموت في عزة وكرامة، أو الخضوع للتنصير مكرهين، أو الهجرة القسرية خارج البلاد، فتنصر من تنصر وهاجر من هاجر، حتى المهاجرون تعرضوا لأنواع من المحن فهلك منهم عدد كبير لا يعلمه إلا الله.

?ولم تثق الإسبان بتنصر المتنصرين، فصدر مرسوم ملكي من قبل فيليب الثالث سنة 1609م بطرد المورسكيين جميعا من إسبانيا سعيا إلى تحويلها إلى دولة كاثوليكية، وتم ترحيل 28 ألف موريسكي إلى ميناء دانية و15 ألف أخرى إلى ميناء بلنسية، بينما اعتمد ألوف غيرهم على أنفسهم في استئجار السفن والإبحار نحو بلدان مختلفة.

?وعلى الرغم من وسائل الإرهاب والتعذيب التي تبنتها السلطات ومحاكم التفتيش في تنصير الموريسكيين، إلا أن الكثيرين منهم واصلوا الحفاظ على أركان دينهم، مؤدين صلواتهم سرًا في بيوتهم، وإذا تم تعميد أطفالهم في الكنائس بادروا إلى غسلهم بعد رجوعهم إلى بيوتهم مباشرة، وكانوا يعقدون النكاح على الشريعة الإسلامية سرًا بعد إجراء الاحتفال العلني في الكنيسة، توارثت أجيالهم العبادات وبعض التقاليد الدينية كابرا عن كابر في مخابئ أو مكامن أو بيوت مغلقة، وقد تحدث زلة لسان من أولادهم أو بعض ضعاف النفوس فيتعرض بعضهم إلى الاضطهاد والقتل، غير مبالين كيف تسيل دماؤهم إذا أدركوا الذي كان أحق وأجدر.

?قد شاع لدى الجماهير أنه لم يبق مسلم على أرض إسبانيا بعد القرن السابع عشر الميلادي، ولكن الواقع أنه بقي عدد لا بأس به في أرض إسبانيا يحافظ على دينه تحت الأنفاق والسرادب في داخل البيوت أو في مغارات وكهوف في الأكمات والمرتفعات، في محن وبلايا تزول منها الجبال الراسيات وقلوبهم على العهد لا يلوي ولا يتغير، ولا يزال بقاياهم إلى الآن، كما أن ثمة تقاليد دينية وعربية استمرت في بيوتات الموريسكيين تذكر بأصلهم.

?رجعت من إسبانيا حاملا قصص أولئك المعذبين المستضعفين، تسيطر علي ذكراهم إذا كنت خاليا، ويطرقني همهم إذا هجع النيام، سرهم في ضمائري مدفون، إن تأملتهم فكلي عيون، وإن تذكرتهم فكلي قلوب، أقول للخيال: إذا أردت فعاود، تُدْن المسافة من هوى متباعد.

أريد لأنسى ذكرها فكأنما

                              تمثَّلُ لي ليلى بكل سبيل

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين