رجال ومواقف: عبّاد بن بِشر.. الحارس في غزوة ذات الرقاع

 

حلَّ الليل، وغطَّى بردائه الأسود الفضفاض على وجه الأرض، فكانت هدأةٌ، وكان سكونٌ، وكان صمتٌ مطبقٌ عجيبٌ عميقٌ.

هدأت الكائنات، وداعب الكرى عيون قوم متعبين مجهدين، هم بحاجة إلى الراحة بعد عناءٍ شاق متصل. كان هؤلاء القوم جمعاً من المسلمين يقودهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة مشهورة له، وهي: ذات الرقاع؛ خرج فيها يطلب قوماً من بني محارب وبني ثعلبة يؤلّبون الجموع من غطفان لمحاربته.

وكان النزول في شعب منفرد لينام فيه المسلمون ليلتهم تلك، وينالوا حظاً من الراحة بعد مشاقَّ ومتاعب، قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه الكرام: "مَنْ يَكْلَؤُنا الليلة؟" فقام الصحابيان الكريمان عبّاد بن بِشر وعمار بن ياسر، وقالا: "نحن يا رسول الله".

وهدأ الجيش وأخذ كلٌّ موضعه، ومضى الحارسان الكريمان ليقفا في فم الشِّعب حمايةً للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين أن يؤخذوا على حين غرة، واتفق عباد وعمار على اقتسام الليل، فقام عباد يحرس أوله ونام عمار ليقوم من بعد فيحرس آخره.

الليل هادئ صامت، والهواء عذب عليل، وعباد في فم الشعب هانئ بما انتدب إليه نفسه من حراسة وسهر، فإن عيناً باتت تحرس في سبيل الله لن تمسها النار، وشعَر عباد بفضل الله عليه أن هداه للإيمان، وهيأ له سبيل الجهاد، فأحسّ بعظيم نعمة الله تعالى عليه، وأخذ يُمضي ليله في تفكر وتأمل، وذكر وتسبيح، ثم بدا له من بعد ذلك أن يقوم مصلياً في جوف هذا الليل حيث لا يراه أحد، وحيث النفس أصفى، والبال أهدأ، والنية أصدق.

وطفق الرجل يصلي وهو سعيد مسرور، خاشع منيب، وأخذ يقرأ من كتاب الله تعالى سورة الكهف.

ألا طوبى لعبّاد بن بشرِ=وعمّار كفاية كل أمرِ

سنقضي الليل نحرسكم ويجري=قضاء الله إن طرقوا بِشَرِّ

كعهدك إذ جرى سماً نقيعاً

وأجرى الأمر عبّادٌ سويَّا=فقام ونام صاحبه مليَّا

وكان بأن يناصفه حريَّا=محافظة على المثلى وبقيا

قريع شدائدٍ وافى قريعا

لربك صلِّ يا عبّاد فردا=وزد آلاءَهُ شكراً وحمدا

ومحكم ذكره فاجعله وِرْدا=فإنّ له على الأكباد بردا

وإن أذكى الجوانحَ والضلوعا( )

وكان ثمة رجل من المشركين يتابع جيش المسلمين بصمت وحذر وإصرار، ذلك أن امرأته أسرها المسلمون، فأقسم ألّا يرجع حتى يصيب النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، أو يهريق دماً في أصحابه.

وحين أبصر عباداً وهو واقف بفم الشعب يصلي فرح وهنّأ نفسه أن قد أدركَتْ ثأرها وبرَّتْ بقسمها. أخذ يقترب بهدوء، ويختار الجهة التي سوف يطلق فيها السهم ليطفئ نار حقده المتقدة في صدره على هؤلاء الذين أسروا زوجته.

وحين اطمأن لجودة المكان الذي اختاره، وحين شعر أن الكل نائمون، وأن عباداً مشغول بصلاته، أطلق سهمه الأول بعد أن صوّب أدق ما يكون التصويب!.. وكم كانت فرحته كبيرة حين رأى السهم يصيب هدفه فيتدفق الدم من عباد بن بشر ويسيل على جسده وثيابه!. أدرك الرجل ثأره وهمَّ أن ينصرف لولا أن رأى عجباً من العجب. لقد رأى عباداً ينزع السهم، ويمضي في صلاته بهدوء وخشوع يرتل بحنان آيات من سورة الكهف.

عجب الرجل أشد العجب، وأدركه من موقف عباد وثباته وحرصه على صلاته شعور بالإعجاب والإكبار. وكاد هذا الشعور يستولي عليه لولا أن عاد فتذكر زوجته الأسيرة، فاشتعل مرجل حقده من جديد، ووضع في قوسه سهماً آخر أطلقه بحزم وعزم ودقة، فكان أن أصاب جسد عباد، وفرح الرجل مجدداً حين رأى سهمه يصيب عدوه، وحين رأى الدماء تزداد تدفقاً وتغزراً. لكن العجب ما لبث أن عاد إليه من جديد.. لقد رأى عباداً ينزع الثاني ويمضي في صلاته يردد من سورة الكهف آيات بينات.

وتملكه العجب بصبر هذا الحارس وبطولته وثباته، وثارت فيه معاني الإكبار لهذا الرجل وإن كان خصماً له. ولولا أن صورة زوجته الأسيرة أخذت تطالعه من جديد فتوقد في صدره الحقد لانصرف عنه في الحال، لكن الصورة الشاخصة والحقد المتأجج جعلا الرجل يطلق من كنانته سهماً بعد سهم، فيصيب عباداً الذي ينزع هذه السهام سهماً بعد سهم ويمضي في صلاته. أيُّ رجل هذا عباد بن بشر الذي يلوح سواده وهو قائم يصلي فتنثال عليه السهام واحداً بعد الآخر!..

ولاح سواده فرماه رامٍ=أتى إثر الحليلة في الظلامِ

فديتك يا ابن بِشر من همامٍ=أما تنفك عن نزع السهام

تحامي عن صلاتك ما تحامي=وجسمك واهن الأعضاء دام

أما لك يا ابن بِشر في السلام =وقد جرت الدماء على الرغام

ألا أيقظ أخاك من المنام=كفاك فقد بلغت مدى التمام

وما تدع القنوت ولا الخشوعا( )

وحين غلب الدم عبّاداً أيقظ أخاه عماراً الذي دهش لما رأى من حال أخيه، وطفق يسأله في لهجة لا تخلو من العتب: أي أخي ما منعك أن توقظني له في أول سهم رمى به!؟

قال عباد: لقد كنت أقرأ في سورة الكهف، فكرهت أن أقطعها، ولولا أني خشيت أن أضيع ثغراً أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم ما انصرفتُ ولو أتى على نفسي.

يا لروعتك يا عباد! ويا لإجابتك المضيئة المتوهجة التي تكشف أي رجل كنت! وأي إيمان كان يعمر فؤادك النبيل!..

رأى عمار خطبك حين هبّا=فلم يرَ مثله من قبل خطبا

يقول ونفسه تنهدُّ كربا=أيدعوني الحفاظ وأنت تأبى

لقد كلفت أمراً منك صعباً=ولو أيقظتني لشفيت قلبا

جرحتَ سواده جَرحاً وجيعا( )

أما الرامي الذي ألحَّ بالسهام على عباد فما إن رأى عماراً وقد هبّ حتى زلزل قلبه، ومضى مسرعاً بالهرب، وهو لا يكاد يصدق نفسه أنه نجا بعد الدرس العجيب الذي تلقاه من عباد بن بشر، ذلك الدرس الذي يكشف له عظمة هؤلاء التلاميذ النجباء الذين تخرجوا من مدرسة النبوة الطهور.

وأبصر شخصه الرامي المُلِحُّ=فزلزل قلبه للرعب نضح

وأمسك منه تهتان وسح=وما إن راعه سيف ورمح

ولكن مسه خبل فريعا

تولى يخبط الظلماء ذعرا=ويحسب درعه كفناً وقبرا

ألا أدبر جزاك الله شراً =ظفرت بصابر وأبيت صبرا

فآثرت الهزيمة والرجوعا( )

لقد هرب الرجل الملحّ بالسهام، وقام عمار بواجبه نحو عباد الذي ما كان ليقطع صلاته ولو قضت عليه السهام؛ لولا أنه خشي أن يضيع ثغراً أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراسته.

أي رجل هذا هو عباد بن بشر!؟ أي بطولة في فؤاده!؟ أجبلٌ هو من الجبال الراسيات لا يضيره وقع السهام!؟ أم أنه بشر يعرف الألم ويكابده، لكن الإيمان رفعه إلى ذرى شامخات!؟

موقف عاطر نبيل يا عباد شاء الله عز وجل أن يكتب لك فيه الحياة والنجاة من القتل لتصوغ من بعد مواقف أخرى عاطرة نبيلة. آخرها موقفك الشامخ السامق المنيف الذي كان ختامه أروع ختام وأكرمه وأشرفه. هو موقفك في اليمامة في حياة الصدّيق رضي الله عنه حتى مضيت تحارب المرتدين، وتهدم عالمهم الزائف الكاذب، وتمضي إلى ربك شهيدَ صدقٍ عند مليكٍ مقتدر.

*****

* شعر أحمد محرم، ديوان مجد الإسلام.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين