رجال ومواقف: جمع جائع يتظاهر بالأكل

تحدث الرجل فقال:

اجتمعنا ذات ليلة من ليالي الشتاء، تلك التي تمتد وتتطاول حتى كأن نُجومَها قد شدَّت إلى يذْبل كما قال امرؤ القيس، فهي لا تريم عن مكانها. وكان البرد ضارياً شديداً قد استبد بالأجسام استبداد الحاقدين وقد سطوا بالأشراف، وكانت الرياح العاتية تهُب في الخارج كأنها الأعاصير، في صوت مخيف مزلزل كأنه عُواء الشياطين.

وغدا الدفء مطلباً عزيزاً، وأمنية نادرة، وتحركت الأمعاء الفارغة تصرُخ طالبةً حقها من الطعام، وما أشد استبداد الجوع وقد اجتمع مع استبداد البرد! فكانا حليفين خطيرين مخيفين.

ما عادت الأجسام لتقوى على الجوع فقد أضرَّ بها، وما عادت تقوى على حدّته أو عنفه، فقد بلغ الجَهد بها فوق الطاقة، وتجاوز قدرتَها على الصبر والجلَد والاحتمال.

كنا في حال من الجوع خشينا معها أن يباح لنا أي شيء، إذ بدت لنا صورةُ الموت مخيفةً مرعبة؛ إنْ لم يكن طعام فشِبَع، فراحة فدفء، فنوم عميق لذيذ يغسل عنا مشقة ما كابدناه من رهق ونصَب.

* * *

وأحصينا ما عندنا فوجدناه قليلاً، إنما هو بضعة أرغفة قليلة لا تنفع في شيء، وعَددُنا، كاثر وجمعنا جائع، وفكرنا كيف نتدبر الأمر لنخرج من هذا العناء الذي نحن فيه.

وكان حميداً ما ارتآه بعضنا إذ اقترح أن نجمع هذه الأرغفة الباقية في مائدة واحدة فهو أطيب وأبرك، وليكن الطعام بعد ذلك، فإن في الجمع زهداً وعفة، وإن فيهم إباءً وقناعة، وإنهم عن الجشع بعيدون، وإن كل واحد منهم حريٌّ به أن يتمثل بقول طَرَفة:

وإن مُدَّتِ الأيدي إلى الزادِ لم أَكُنْ بِأَعْجَلِهِمْ إذ أَجْشَعُ القَومِ أعجلُ

وهكذا كان!.. جمع القوم طعامهم طلباً للبركة والخير، وهمّوا بأن يبدؤوا فيه لولا أن تقدم أحدهم باقتراح حميد آخر.

قلت لمحدثي: وما هو ذلك الاقتراح الآخر الحميد؟ بارك الله فيك!..

قال محدثي: كان الاقتراح الآخر أن نطفئ السراج، فإن ذلك أدعى لذهاب الخجل من قوم كرام أَضَرَّ بهم الجوع، لكنَّ إباءَهم أقوى من الجوع الذي يقاسون، وإيثارَهم فوقَ الضُّرِّ الذي منه يشكون.

ونظر الجمع المتحلق حول المائدة البائسة إلى بعضه، وجاشت في أفئدة ذويه خواطرُ وضيئةٌ ناضرة، تسمو وتعلو، لتكون مكارمَ للأخلاق تُحتَذَى وتُقَلَّد.

وأُطفِئ السراج، وساد الظلام، وعمَّ الجمعَ صمتٌ نبيل، وطَفِقَ القومُ يأكلون، أو هكذا كان الظنُّ وِفْقَ ما اتفقوا عليه.

* * *

ولو قُدِّرَ لإنسانٍ أن يتغلغل في أخلاد الجمع المتحلق حول المائدة، وأن يسبِرَ أعماق القوم لرأى عجباً من العجب. لقد كان الواحد منهم كلّما هَمَّ أن يأكل يتذكر قلة الزاد، ويتذكر الطَّوى المرهق الذي أتعب إخوانه، ويتذكر كذلك أن بوسعه أن يأكل ما يشاء، فالمائدة... مُعدّة، والسراج مطفَأ، مما يتيح له أن يشبع كما يطيبُ له، لكنْ هل من مكارم الأخلاق أن يستأثر دون صحبه بالطعام!؟ أمِنَ المروءة أن يحاول الإسراع في الطعام أم أن يحاول الإبطاء فيه!؟

وكان حوار داخلي عنيف حار، لكنه في الوقت نفسه ساكن صامت، وكانت مغالبة بين الفكرة السامية، فكرة الإيثار، وبين الصراخ الحاد في المعدة والأمعاء.

الواحد يمد يده ليتناول ما يستعين به في شدته تلك، لكنه ما يلبث أن يجذبها بسرعة ويردَّها من جديد حيث كانت، ذلك أن داخله مثلَ هذا الحديث:

كيف أمد يدي إلى التقاط هذا الطعام وقد اشتدت إليه حاجة أخي!؟ أليس في مِكنتي أن أحيا بلا طعام مدة أطول!؟ هبني سارعتُ إلى الأكل، أليست معدةً تُملأ ساعة من نهار لتجوع من جديد!؟ الأكلة -إذن على لذتها ورغبتي فيها- فانية، وهي فانية أسرعَ ما يكون الفناء، لكن الإيثار لو أني سلكته أبقى وأطيب، وأحسن وأكرم، ثم هو خالد باقٍ عند الله عز وجل، سوف يصلني ثوابه كاملاً غير منقوص، فهو وديعة كريمة عند الله جل جلاله.

فليكن الإيثار إذن احتساباً وقربة للخالق المنعم، وليكن الصبر، ولتكن العفة والشجاعة والاحتمال.

لكنْ، لو أني كففت يدي بصورة تسترعي النظر، فإن إخواني سوف ينتبهون، وعندها سوف يفتضح أمري، ولا بد عندئذٍ من أن أعود إلى الطعام، فإنهم سوف يصرون على ذلك.

إن خير ما أفعله أن أمد يدي إلى المائدة، وأتظاهر أني أخذت شيئاً منها، وأحرك شفتي، وأفتح فمي وأغلقه، وأُحْدِثَ صوتاً يشبه صوت الآكِل، وإذا لزم الأمر فسوف أتجشأ أيضاً، لأبدوَ كما لو أسرفت في الطعام.

عندها سوف يحسب إخواني أنني أكلتُ، بل أسرفتُ في الأكل، وعندها أكون قد آثرتُ دون أن يعلم أحدٌ منهم بذلك، فيكون عملي أبعدَ عن الرياء، وأقرب إلى الصدق والإخلاص، وعندها سوف أكسب الأمرين في حال واحد، آثرت إخواني بالزاد، ونجوت من شوائب الرياء وكلمات الثناء والإطراء.

* * *

قلت لمحدثي: وبعدُ.. كيف انتهى أمر القوم!؟

قال: كنتَ تسمع أصوات الأيدي وهي تمتد إلى المائدة ثم تعود، وكنتَ تسمع أصواتَ الأَكَلَةِ النهمين، وربما حسبتَ أن سباقاً يجري بينهم إذ ذاك.

قلت له: وبعد.. كيف كان الختام!؟

قال: أضيءَ السراج، وسطعَ النور في الغرفة، ونظرَ القوم إلى الطعام، ثم نظروا إلى بعضهم، ثم ساد المكانَ صمتٌ جليل نبيل، هو أبلغ من أي حديث أياً كان.

قلت: ولمَ رعاك الله!؟

قال: لقد كان الطعام على حاله، لم ينقص شيئاً قط، وذلك أن كل واحدٍ من القوم آثر صَحْبَهُ بالزاد وإن كان يتظاهر في أثناء إطفاء السراج بأنه يأكل.

قلت: أما والله إن أمرهم لعجب! وإنهم حقاً لرجال! وإن موقفهم ذلك جليل نبيل، طاهر وضّاء!.

قال: صدقت، إنهم قوم سما بهم الإيمانُ سمواً عجيباً، وحلّق بهم وتألق، إنه الإيمان يا صاحبي... إن تغلغل في أعماق النفوس، كان رجالٌ كرامٌ عظامٌ، وكانت مواقفُ كريمةٌ عظيمة.

*****

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين