رجال ومواقف : جعفر الطيار.. القائد الطائر في مؤتة

هو جعفر بن أبي طالب، الصحابي الجليل، والمؤمن العظيم، والقائد المجاهد، ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم، والقائد الثاني لمعركة مؤتة، والشهيد الذي توفي في أرض الشام وهو على رأس جيش صغير عدده ثلاثة آلاف من المسلمين يحارب به جيشاً للروم عدده مئتا ألف.

لقد ندر في تاريخ الحروب أن تكون النسبة العددية بين الجيشين، مثل تلك النسبة التي كانت بين المسلمين والروم في يوم مؤتة، ذلك أن التفوق الرومي أكثر من كبير، وأكثر من ماحق. ولك أن تتصور جسامة ذلك حين تقارن بين مئتي ألف وبين ثلاثة آلاف. لكن جيش الإسلام الذي رباه وأعده محمد صلى الله عليه وسلم كان يمتلك سلاحاً عجيباً غير مرئي، لكنه يفعل الأفاعيل الغريبة المدهشة، بينما كان جيش الروم يفتقده، هذا السلاح العجيب غير المرئي هو سلاح الإيمان الذي يبث في النفوس طاقة جبارة هائلة، ومدداً نفسياً ضخماً، فيستحيل معه المتردد إلى مُقْدِم، والمُقْدِم إلى شجاع، والشجاع إلى بطل، والبطل إلى فارس مغوار يقتحم المهالك، ويلقي بنفسه في كل معترك، يبتغي القتل مظانه، لا يبالي أوَقع على الموت أم وقع الموت عليه؟

هذا الإيمان العجيب الفعال الذي يطهر النفوس من أدران الطين، ويسمو بها إلى آفاق الرسالة الكريمة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، فينفي منها الشوائب والأرجاس، فإذا بها تتحرر من جواذب الطمع والجشع، ومطارق الخوف والهلع، وإذا بها حميّة تتقد، وهمة تمضي، وجهاد نبيل لا يلين.

ذلكم هو السلاح الذي افتقده جيش الروم، وامتلكه جيش المسلمين وكان لجعفر بن أبي طالب منه أرقى نصيب.

* * *

والتقى الجيشان في يوم مخيف، جيش الروم يدافع عن عالم مهترئ عفن، نخر فيه الفساد، ومشى فيه السوس، يقوم على الظلم والجبروت، وبنى كيانه على علاقات فاسدة، يستعبد فيه الإنسان، ويظلم فيه العدل، وينحي فيها الخير، ويقدم فيه الشر.

وجيش الإسلام يجاهد من أجل بناء عالم جديد، نظيفٍ وضاء، طاهرٍ أمين. الناس فيه يتساوون أمام خالقهم جل جلاله وأمام الشرع الذي أنزله، عالم يستهدف رفعة الإنسان، وكرامة الفرد، وخير الجموع، عالم يحرر الناس من الخرافة والوثنية والشرك، يقيم العدل وينحي الشر، ويقدم الخير، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. كان الصراع بين الجيشين صراعاً بين حضارتين، حضارة بائدة فاسدة، وحضارة جديدة رائعة، تريد أن تقدم للناس أروع فجر عرفته البشرية في عمرها الطويل.

* * *

مشهد تمثيلي..

الشخصيات: منادٍ ينادي، مجاهد، عبد الله.

(صوت المعركة يشتد ويعلو – سلاح – خيل – ضجيج).

- صوت المنادي "بأعلى صوته": يا معشر المسلمين! لا يهولنكم ما ترون من أعداد كثيرة، فوالله ما نقاتل الناس بعدد ولا عدة، بل بهذا الدين الذي أكرمنا الله به.

(صوت المعركة يطغى ويعلو)

- صوت المنادي مجدداً "بأعلى صوته": يا معشر المسلمين! اليوم يوم البيع بيعوا أنفسكم لله عز وجل، والثمن جنة عرضها السماوات والأرض.

(صوت المعركة يطغى ويعلو)

- صوت المنادي مجدداً "بأعلى صوته": أقدموا يا أهل الإسلام، أقدموا يا حملة القرآن.

(صوت المعركة يعلو من جديد)

- مجاهد "في صوت متحمس": يا عبد الله، إنها لمعركة حامية.

- عبد الله "في صوت متحمس": صدقت يا مجاهد.. لقد أبلى المسلمون في هذه المعركة أعظم البلاء.

- مجاهد: "متحمساً" وكيف لا؟ وهم يطلبون الجنة؟ "صمت"

- صوت المنادي: لقد استشهد قائدنا زيد بن حارثة، وها هو قائدنا الثاني جعفر بن أبي طالب يحمل الراية من بعد "صوت المعركة"

- مجاهد: يا عبد الله، انظر إلى جعفر، إنه يحمل الراية، ويمضي كالسهم مجاهداً في سبيل الله.

- عبد الله: صدقت يا مجاهد.. انظر إليه كالليث.. بارك الله فيكم أهل بيت النبوة "متحمساً في صوت سريع" الله أكبر! هاهو ينزل عن فرسه كأنه يشعر أنها تعيقه عن جهاده.

- مجاهد: "متحمساً في صوت سريع" انظر إلى ذلك الرومي يحاول الاستيلاء عليها.

- عبد الله: لقد عقر جعفر فرسه.

- مجاهد: ولكن.. انظر إلى هذه الكوكبة من فرسان العدو تحيط بجعفر، إنه يستأسد لكنهم تكاثروا عليه.

- عبد الله: ويح جعفر!.. لقد ضربت يمينه.

- مجاهد: "متحمساً" لكن الراية لم تقع، لقد أمسكها بشماله.

- عبد الله: "متحمساً حزيناً" ولكن هاهم يضربون شماله.

- مجاهد: بارك الله في جعفر! إنه يحتضنها بعضديه خوفاً عليها من أن تقع. إنه يهوي شهيداً مبروراً، هاهي الراية تكاد تسقط..

- عبد الله: الله أكبر، لكن هاهو عبد الله بن رواحة يعدو إليها ويحميها ويتولى قيادة المسلمين.

* * *

كان جعفر من ذلك النوع النادر من الناس، إيماناً وبطولة، وجهاداً وتضحية وإخلاص نفس وصفاء وجدان. لقد مضى في صفوف العدو وهو يرتجز:

يا حبذا الجنة واقترابها

طيبة وبارداً شرابها

والروم رومٌ قد دنا عذابها

كافرة بعيدة أنسابها

عليّ إذ لاقيتها ضرابها(1)

وحين أصيبت يده اليمنى، سارع يحمل اللواء بيده اليسرى، فلما أصيبت سارع يحتضنه بعضديه، إنه حريص على ألا يقع، إنه قائد مسؤول وعليه أن يحتمل المسؤولية مهما تكن باهظة التكاليف. رحمك الله أيها البطل المجاهد!.

إنها ميتة نادرة تلك التي كتبت لك. وإنه لمصير عظيم ذلك الذي أفضيت إليه، لقد فزت ووصلت وتركت أكثر الناس يلهثون وراء بطون لا تشبع حتى تجوع، ومطامع لا تأتي حتى تتجدد.

لقد كنت جواداً في حياتك بالمال تمنحه المساكين حتى قال فيك أبو هريرة: "كان خير الناس للمساكين جعفر"، ثم كان ختام حياتك أروع الكرم والجود والإيثار.

لقد التمسك عبد الله بن عمر يوم مؤتة مع بعض المسلمين، فوجدوا فيك بضعاً وتسعين ما بين طعنة ورمية.

ولِمَ العجب وقد كنت تعدو إلى اختيار عظيم كوفئت عليه، إذ صار لك في الجنة جناحان رائعان بدلاً من ذراعيك الكريمتين.

*****

(1) شعر جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين