رجال ومواقف: تركة صلاح الدين الأيوبي

ما الذي خلَّفه صلاح الدين بعدَ موته؟ ماذا ترك لأولاده من دارٍ ومالٍ وأثاث وأرض؟ أكثيرٌ ما خلَّفه أم قليل؟

أسئلةٌ اعتاد الناس أن يبحثوا عن إجابتِها، بعد موتٍ يباغتهم فيختار واحداً منهم ليودّعَ الدنيا. قد يسارعُ الناس إلى هذه الأسئلةِ وقد يتأخرون، قد يحرصون على معرفة الإجابة وقد لا يحرصون، قد يلحّون في الأمر وقد لا يلحّون، لكنَّ يوماً قادماً بعد هدوء الأحزان، لا بد أن يحمل مثل هذه التساؤلات.

وحين مات يوسفُ بعد عُمْر أمضاه في الجهاد، حقق فيه انتصارات عظيمة، وجاس فيه خلال ديار الأعداء، وتدفقت بين يديه كنوز من الأموال والنفائس، ونوادر التحف، وعجيب المغانم، تساءل الناس عما خلّف من مال؛ فكان الجواب: لقد ترك ديناراً واحداً وسبعة وأربعين درهماً.

- يا حامل هذا النبأ أجادٌّ أنت أم هازل؟

- بل هو جادٌّ تمام الجد، ليس في حديثه موضع للهزل أو السخرية. ذلك المال فقط هو ما تركه يوسف بعد موته.

- يا حامل هذا النبأ أما خلّف يوسف شيئاً آخر سوى هذا الدينار والدراهم السبعة والأربعين؟ أما خلّف داراً أو عقاراً أو أرضاً؟

- لا، إن يوسف لم يخلّف شيئاً آخر قط، ما خلّف أرضاً، ولا داراً ولا عقاراً، خلّف ديناراً واحداً وسبعة وأربعين درهماً فحسب.

- أعرفت من يوسف هذا؟

إنه يوسف بن أيوب، صلاح الدين الأيوبي، المجاهد المسلم العظيم، والفاتح الموفق المنصور، وقاهر الصليبيين.

صلاح الدين هذا، ما خلّف شيئاً سوى ذلك، حتى لقد أُخرِجَت جنازته بالدَّيْن كما يقول القاضي بهاء الدين بن شدّاد.

حسب القاضي تركة هذا الرجل العملاق الذي جاءته مغانم وأموال لا يمكن للناس إحصاؤها. ذلك أنه بسط سلطانه على رقعة واسعة من العالم الإسلامي، شاسعة وغنية، كما أنه انتصر في حروب كثيرة جاءه فيها سيل دفّاق من المغانم الوفيرة.

سلطانه امتد؛ فإذا به يشمل الشام كلها إلا ما كان منها بيد الصليبيين، وقسماً كبيراً من العراق، ومصر كلها، فضلاً عن الحجاز واليمن، وأجزاء أخرى في أفريقية، سلطان واسع شاسع يغطي أراضي كان جزء يسير منها تقوم عليه دول وحكومات، وترتفع عليه أعلام ورايات، ويحكمه رجال ينتحلون شتى الألقاب والشارات.

جزء يسير مما اشتمل عليه نفوذ صلاح الدين، لو ملكه أحدهم لتوهّم نفسه صاحب سلطان وصولجان، ولأعد منه الجيوش الوفيرة ذوات العدد، ولأكّد لنفسه وللآخرين أنه موفّق أبعد التوفيق، مسدَّدٌ أعظم التسديد، أسعفته المُنى، وسارعت إليه الآمال، فهو شاكر للزمان أياديه البيضاء، فرح مسرور بما آل إليه أمره، ينتظر مقدم الشعراء ليصوغوا فيه أعظم القصائد.

هذا الجزء الصغير الذي كان قميناً بهذا كله؛ كان لا يعدو أن يكون ولاية ربما صغرت ونأت في مملكة صلاح الدين الممتدة العظيمة، ومع هذا حين مات هذا العملاق المسلم المجاهد، خلّف ديناراً واحداً وسبعة وأربعين درهماً، وأُخرِجت جنازته بالدَّيْن كما يقول القاضي بهاء الدين بن شداد.

ذلكم أمر سلطانه الممتد، أما المال الذي جاء إلى يديه العفيفتين، وأما المغانم التي تدفقت من حروبه الموفقة المنصورة كالسيل العرم الزاخر، فشيء يفوق التصوّر، ذلك أنه وضع يده على مصر الفاطمية، وكانت في الغِنى أمراً بالغ الدهشة، ثم وضع يده على بلاد أخرى مر بك ذكرها، هي في الخصب والعراقة والغنى تاريخ حي عظيم، وفي فتحه للقدس عام 583هـ، وفي معركة حطين من قبل ذلك وضع يده على أموال هائلة طائلة، من المغانم التي اكتسبها، ومن الفداء الذي دفعه الأسرى. ومع هذا كله، ما ترك حين مات لا داراً ولا عقاراً، ترك ديناراً واحداً وسبعة وأربعين درهماً فحسب، وأُخرِجت جنازته بالدَّيْن كما يقول القاضي بهاء الدين بن شداد.

أيها السلطان المجاهد، ما تركته -والله- أبقى وأخلد، وأعظم وأروع، وأسمى وأنبل، من كل ما تركه غيرك من الذين شُغلوا بجمع الأموال وتكديسها، وامتلاك الأراضي وتشييدها، أيّاً كانت فعلتهم، من حلال أو حرام، من شح أو جود.

ستظل سيرتك أعجوبة الإيمانِ حين يتّقد، والنفسِ إذ تصفو، والإخلاصِ إذ يمتلك كرام الرجال فيرتفع بهم إلى مصاف الأبطال. وأستأذنك في إهدائك هذه الأبيات:

يا إماماً رفع الله به=دولة الحق ومجد المسلمينْ

أنت عنوان لروحٍ طاهرٍ=أيّد الله به درب اليقينْ

رفرفت راياته خفاقةً=ومضت أخباره في العالمينْ

تنشر الهدي وتُعلي صوتَه=واحة التائه، مأوى الحائرينْ

كل إرثٍ في البرايا زائلٌ=غير تقوى الله والحق المبينْ

والذي خلّفتَه لمَّا يزلْ=عبرة الأبرار تسمو كل حينْ

*****

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين