رجال ومواقف: المقداد بن الأسود في الطريق إلى بدر

هو المقدادُ بن الأسود، البطل المؤمن المجاهد الذي وصفه أصحابه فقالوا "أولُ من عدا به فرسُه في سبيل الله المقدادُ بن الأسود" وهو واحد من المبكرين بالإسلام وسابعُ سبعة جَهَروا باعتناقهم له حاملين كلَّ الأذى الذي تفننت قريشٌ في صبّه على ذلك الرعيل الأول، في شجاعة الرجال، وصبر الكرام، واحتمال الأوفياء، وبشاشةِ من أخلصوا أنفسَهُم لله عز وجل.

وسوف يظل موقفه الذي تألق فيه قبل معركة بدر صورةً رائعة أمينةً تكشفُ عظمةَ هذا الرجل الشهم، وعظمةَ المستوى الذي قادَ أصحابَه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتساعَ النُّقلَةِ الجليلة التي أحدثها في حياتهم.

هو موقف شامخ جليل، فيه أصالةُ النفوسِ المؤمنة، وفيه ألَقُ السرائر النقية، وفيه احتمالُ الرجال لمسؤولياتِهمُ الكاملة مهما تكنِ الصعاب.

هو موقف يكفي للإعراب عن شموخه واستعلائه أن عبد الله بنَ مسعود صاحبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيه: "لقد شهدتُ من المقداد مشهداً، لَأنْ أكونَ صاحبَه أحبُّ إليَّ مما في الأرضِ جميعاً".

ففي ذلك اليوم الذي بدأ صعباً شاقاً، وانتهى نصراً خالداً، حين أقبلت قريش في غرورها وكبريائها، وإصرارها وعنادها، وحين كان المسلمون قلةً لم يخوضوا بعد أي معركة حربية... راح رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أشيروا عليَّ أيها الناس". وهي قولة وجيزة لكنها عميقة الإيحاءات والدلالات، شاسعة المرامي والأبعاد. هي قولة تَعْجِمُ إيمان الذين معه، وتبلو عزائمهم، وتكشفُ حقيقة رغائبهم الدفينة في وقت صعب عصيب.. ينفع فيه الصدق ليكون القائد على معرفة حقيقية عميقة بالقوة التي بين يديه، فيقدرَ من بعد ماذا هو فاعل بها؟

ووقف الصّدِّيق العظيم فقال وأحسن، وتلاه عمرُ العظيم فقال وأحسن، ثم نهض المقداد، فإذا به يلقي بهذه الكلمات الوضاءِ العِذاب، المتدفقةِ بالنور، الممتلئةِ بالإيمان، المزدحمة بمشاعر البطولة والفداء والجهاد التي كانت تَعْمُرُ فؤادَ المقداد، وأفئدة الصحابة الكرام الآخرين من مهاجرين وأنصار.

وقف المقداد يقول: "يا رسول الله، اِمْضِ لما أراك اللهُ فحن معك، واللهِ لا نقولُ لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، بل نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون. والذي بعثك بالحق، لو سرتَ بنا إلى بَرْكِ الغِمادِ لجالدنا معك من دونه حتى تبلغَه، ولَنُقاتلن عن يمينك، وعن يسارك، وبين يديك، ومن خلفك، حتى يفتحَ الله عليك".

* * *

تلكم كانت الكلماتُ التي هتف بها المقدادُ قبل بدر، وهي كلماتٌ وجيزةٌ بسيطة، لكنها في العمق على الغاية منه، وفي الصدق على الغاية منه، وفي الإيمان على يقين منه عجيب، وفي تقدير جدية الموقف وصعوبة المسؤولية على أنقى وأمضى وأوعى ما يكون الرجال الصادقون، الأوفياء للطريق الذي اختاروه في حياتهم.

قد يظن ظان أنها قولة أملتها الحماسة، وحقاً إن فيها لحماسة، وإن الحماسة الرشيدة البصيرة مكرمة وفضل، وما أشقى الحياة إن خلت من عواطف الخير والحق، الحارّة المتقدة المشبوبة! فإنها وقود صادق عظيم النفع كبير الغَناء، في تحريك المسيرة الخيّرة إلى الأمام صوب هدفها الجليل النبيل.

إن بوسع المرء أن يقول: إن الدعوات التي لا عاطفة فيها تولد ميتة، ولا تحقق أي شيء ذي بال، وخذ الفلسفة دليلاً على ذلك، وقل لي: ما الذي استطاعت أن تُحدِثه بالفعل في حياة الناس!؟ من أجل ذلك كان الإيمان عقلاً وعاطفة، فكراً ووجداناً، وهو لذلك ذو نفع عظيم، إذ هو خطاب للفطرة البشرية كلها.

إن في قولة المقداد حماسة، ولكنها حماسة رشيدة بصيرة، ترتكز من وضوح الرؤية على فهم ذكي وتقدير دقيق، وتعتمد من سلامة الفكر على حكمة راجحة ونظر عميق، ثم هي فوق ذلك إعلان حارٌّ متقد، وهتاف عنيف جيّاش بالمستوى المطلوب من أصحاب الدعوات أن يكونوا عليه.

موقف المقداد، هذا الذي غبطه عليه ابن مسعود الصحابي الجليل، يكشف لنا شجاعته الفائقة، وحكمته الراجحة، ونظره العميق.

* * *

ومن غير ريب تركت كلمات المقداد أثراً كريماً في الحشد المؤمن الصالح الذي كان يقوده رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أشرق وجهه الطاهر الشريف وتهلل، وخرجت من فمه العاطر الكريم دعوة صالحة للمقداد.

وأما الجيش المؤمن الذي كان لا يتجاوز ثلاثمئة إلا بقليل؛ فقد سرى فيه روح دفّاق بلغ مكانَه من أفئدة المؤمنين فقوى عزمهم، وشدّ أزرهم، فإذا بهم عزيمة أثبت من الصخر، وهمّة أسمى من الجبال الشُّم، ورغبة مُلِحَّة عنيفة أن يلتقوا بجيش البغي والوثنية، والخرافة والضلال، والجاهلية والغباء، ليصدقوا اللهَ ما عاهدوه عليه.

وربما كانت الكلمةُ الجليلةُ النبيلة المفعمةُ بالخير، الضاجَّةُ بالمكرمات؛ كلمة الصحابي العظيم سعد بن معاذ التي جاءت بعد قولة المقداد، إنما كانت أثراً لها، وامتداداً لما بلغته في أعماق المؤمنين.

أيها البطلُ العظيمُ المؤمن! أيها المقداد!..

إذا كان موقفك هذا قد أُعْجِبَ به ابنُ مسعود إعجاباً جعله يُؤْثِرُهُ على ما في الأرض جميعاً لو كان هو صاحبَهُ، وابن مسعود هو من هو في الإيمان والأسبقية، تُرى ألا يَعْدِلُ وحدَهُ حياتنا نحن جميعاً، وهي الكليلةُ الكابيةُ العاجزةُ التي لو اجتمعت كُلُّها في جيلنا كلِّه لما صاغت بعض هذا الذي وقفت قبل معركة بدر، فكيف بموقفك كُلِّهِ!؟

*****

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين