رجال ومواقف: السجين والموت والنجاة

(1)

مرداس في السجن – سجين آخر

"حديث مرداس تبدو عليه الرزانة والثقة، وحديث الآخر تظهر فيه الحدة والعصبية والقلق"

مرداس: اللهم إننا نحمدك حَمْدَ الشاكرين في السراء والضراء.

الآخر: "في صوت يبدو عليه الضيق" اللهم عجّل لنا بالفرج، وخلصنا من هذا السجن، وأعِدنا إلى أهلنا سالمين.

مرداس: لا تقلق يا أخي، فوِّض الأمر لله، فهو أرحمُ بنا.

الآخر: "في صوته القلق" إنني مفوضٌ أمري لله يا مرداس.. وإنما أنا أدعو وأجتهد في الدعاء.. "في عصبية" فهل في ذلك بأس؟

مرداس: لا.. ليس في ذلك بأسٌ قط.

الآخر: أما عرفنا أن الدعاءَ مُخُّ العبادة؟

مرداس: بلى يا أخي!.. فَلْأَدْعُ أنا.. وَلْتَدْعُ أنت أيضاً.. فذلك مما يرفع درجاتنا، لكنني أوصيك بالصبر.

الآخر: "في ضيقٍ وعصبية" الصبر، الصبر، نحن في السجن على اجتهادِنا في العبادة، وحرصِنا على الطاعة، وعُبَيْدُ الله بن زياد وهو ظالمٌ آثم يفتكُ بنا كيفَ يشاء.

مرداس: إن الأمرَ لله يضعُه حيث يشاء.

الآخر: الأمرُ كلُّه حقاً لله يا مرداس!.. لكن هذا لا ينبغي أن يقودَنا إلى العجز والقعود.

مرداس: يَغفِرُ الله لك يا أخي.. لو كُنّا ممن آثرَ القعودَ لَما قُتِلَ مِنّا مَن قُتِلَ، وسُجِنَ مَن سُجِن.

الآخر: "في حدة وعصبية" لكن أليس مما يبعث على الحزن أن تنتهي الأمور إلى هذا الذي نحن فيه؟ أصحابُنا بين قتلٍ ومطاردة، وبين سجنٍ طويل الله يعلمُ نهاية هذا الذي نحن فيه.

مرداس: إنما علينا أن نصبر ونَثبُتَ على الحق.. وثباتنا هذا نصرٌ غير قليل، ثم لا تنسَ أن الله عز وجل جعلَ الابتلاء من نصيبِ من يحبُّهم الأمثلَ فالأمثل.

الآخر: "في ضيق" إنني إنما أسأل الله العافية.

مرداس: لا تثريب عليك قط في هذا!.. فالرسول صلى الله عليه وسلم علَّمَ عمَّه العبّاس أن يسأله العافية، لكن إذا كان ابتلاءٌ فعلينا الصبر والثبات.

الآخر: اللهم عجِّل بالفرج، اللهم رُدَّنا إلى أهلينا ومساكنِنا، اللهم فُكَّ عنا هذه القيود والأغلال.

مرداس: ما أحسن ما دعوت!.. لكن حذارِ أن يؤولَ أمرُكَ إلى اليأسِ يا أخي، وعليك بتلاوةِ القرآن، ومداومةِ الذكر.. وإن الله تعالى جاعلٌ للذي تراه فرجاً ومخلصاً.

(2)

مرداس – السجّان

"خطوات ثقيلة على الأرض.. أقفال تُقفَل.. أبواب حديدية تُغلَق.."

السجان: "كأنه يناجي نفسه" واللهِ ما طابت لي هذه الوسيلةُ في الرزق، صباحي مع المساجين، ومسائي مع المساجين، والويلُ لي إن هرب مني أحد. عليَّ أن أتفقدَهم واحداً واحداً، وأنفذ وصايا الأمير في كلٍّ منهم كما طلب.. اللهم هيِّئ لي عملاً كريماً سوى عملي هذا.

مرداس: "صوت مرداس يتلو القرآن الكريم في خشوعٍ ورقةٍ وحنان":

{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ* وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ* وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الزمر: 53-55]

"صوت مرداس يدعو في خشوع مؤثر":

اللهم اغفر لي ذنوبي وخطاياي، وأسبِغ عليَّ ثوب رحمتك. اللهم اجعلني من المنيبين إليك، الصادقين الخاشعين. اللهم طهِّرني من الكذب والنفاق والرياء، واجعلني مُخْلَصاً لك، واجعل أمري كلَّه، دقيقَه وجليلَه خالصاً لوجهك الكريم يا الله يا أرحم الراحمين.

السجان: "في صوت هادئ": إن مرداساً قد فتَّت قلبي، أدهشني والله اجتهاده في العبادة، وصبره وثباته.. "وقع خطى السجان يمشي على الأرض بهدوء"

السجان: كيف أنت اليوم يا مرداس؟

مرداس: الحمد لله رب العالمين، عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، إن أصابه خيرٌ شكر فكان خيراً له.. وإن أصابه شرٌّ صبر فكان خيراً له. اللهم اجعلني مؤمناً شاكراً في السراء، صابراً في الضراء.

السجان: ها قد هدأ الليل، وخَلَتِ الشوارع، فاذهب إلى بيتك، وعُدْ إليَّ قبل الفجر، وحذار أن يراك أحد.

مرداس: بورك فيك، إنك واللهِ رجلٌ صالح.. شهورٌ مضت وأنت تُخرِجني من السجن وأنا أعود إليك.. أسأل الله جل شأنه أن يجزيك عني خير الجزاء.

السجان: أنت رجلٌ وفيٌّ، وأنا واثقٌ بك، ولو أنك أردتَ الهرب لكان ذلك بوسعك، لكنك تعود دائماً.

مرداس: ما كان للمسلم أن يَغدُر، إني عائدٌ إليك أياً كان الأمر.

السجان: اخرج، اخرج مُصاحَباً محفوظاً. دعني أفتح الباب، "بابٌ يفتح"، وأفك هذه القيود "قعقعة" امضِ يا مرداس.. واذكرني بالله عليك في صالح دعائك.. عجِّل فما ثَمَّةَ عينٌ ترانا الآن.

(3)

مرداس – زوجته

"مرداس يتحدث هادئاً ثابتاً رزيناً، والزوجة حديثها مضطرب منفعل يختلط أحياناً بالبكاء"

الزوجة: "بصوت غاضب منفعل" وكيف تعود إلى سجنك يا مرداس؟

مرداس: إن الفجر قد اقترب، ولا بد لي من الرجوع.

الزوجة: لكن الأمر هذا اليوم مختلف.. إن عُبَيْدَ الله بن زياد قد أمر بقتلكم جميعاً صباح هذا اليوم.

مرداس: ما كان المسلمُ لِيَغدُرَ أو يخون.

الزوجة: أتلقي بنفسك إلى الموت؟

مرداس: يقضي الله ما يشاء.. لقد أحسن السجان لي، فمنذُ زمنٍ وهو يتركني آتي إلى داري وأعودُ إليه قبل الفجر، فهل أقابلُ ذلك بالغدر؟

الزوجة: "باكية" لكن الحال الآن مختلفٌ يا مرداس، كنتَ تعودُ كل يومٍ إلى السجن، أما اليوم فأنت عائدٌ إلى القتل.

مرداس: لن أغدُرَ قط.

الزوجة: "باكية" أما قلت لك: إن ابن زياد قد أمر بقتلكم جميعاً هذا الصباح؟

مرداس: بلى.

الزوجة: فكيف تعودُ إلى السجن؟

مرداس: لن أغدُرَ برجلٍ لا أعرفُه، فكيف بهذا السجّانِ الذي أحسنَ إلي؟

الزوجة: "تبكي"..

مرداس: أنا الكَمِيُّ وتأبى الغُرُّ من شِيَمِي نُكْرانَ نعمةَ مَن أسدى إليَّ يدا

الزوجة: "تجهش بالبكاء"

مرداس: ما كنتُ لأغدر!.. ما كنتُ لأغدر!.. إني عائدٌ إلى السجن، والله يقضي ما يشاء.

(4)

مرداس – السجّان

السجان: واللهِ إنكَ لرجلٌ كريم يا مرداس.. عُدْتَ إليَّ لأضعَ في يدك القيود وأنت تعلم أن ابن زياد قد أمر بقتلكم.

مرداس: ما كان المسلمُ ليخون.. يقضي اللهُ ما يشاء.. وإني راضٍ بقضائه.. حسبيَ الله ونعمَ الوكيل.

السجان: لقد أدهشني أمركَ يا مرداس!.. والله لَأفضِيَنَّ بما كان منكَ لابن زياد.

مرداس: أما تَحْذرُهُ على نفسِك؟

السجان: بلى والله.. إنه لظلومٌ غشوم.. لكني واللهِ قد أعجبني ما فعلت، ولأبذلنَّ جَهدي كلَّه لاستنقاذِك، وعسى أن يُعْجِبَهُ ما فعلتَ فيعفوَ عنك.

(5)

ابن زياد – السجّان

السجان: "يتحدث بحماسةٍ وقلقٍ ورجاء" هذه قصة مرداسٍ معي أطال الله بقاءك أيها الأمير!.. لقد كان وفياً معي إذ عادَ وهو يعلمُ أنه القتل.. ولقد كنتُ وفياً معك إذ جَلَوْتُ لك حقيقة الأمر.. وأنت حفِظك الله أجدرُ مِنّا بالمكرُماتِ فَهَبْ مرداساً لي، واعفُ عنه جزاك الله خير الجزاء.

ابن زياد: واللهِ إن أمر مرداسٍ لعجيب!.. وإنَّ صِدْقَكَ معي لمكرمة، ولن أكونَ ألْأَمَ الثلاثة. اذهبْ فقد وهبتُ مرداساً لك.. ولكن حذارِ أن تعودَ في قابلِ الأيام إلى مِثلِ ما فعلت.

*****

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين