رجال ومواقف: أبو موسى الأشعري والبصري

كان رجل من أهل البصرة، ذو شدة وقوة، وعزة وإباء، ونكاية في العدو بالغة ماضية، يعمل مع أبي موسى الأشعري والي البصرة من قبل الخليفة العظيم عمر بن الخطاب.

ولأمرٍ ما حدث خلاف بين صاحبنا وبين أبي موسى.. ولأمر ما جلده أبو موسى عشرين سوطاً، وحلق له شعره، إمعاناً في العقوبة والتأديب.

لكنّ صاحبنا لم يكن من النوع الهيّاب الوجل، لقد كان يعرف قدر نفسه، ويعرف عدل الإسلام وسماحته، حيث ضمِن لكل فرد حريته في حدود الشريعة السمحة. إنه دين الإباء لا الخنوع، والعدل لا الجور، والسماحة لا العدوان.

لقد امتلكه الغيظ، واستبدّ به الألم.. فقد رأى أن أبا موسى قد جاوز قدره، وظَلَم.. وأنزل به عقاباً لا يستحقه.

إذن فليذهب إلى المدينة المنورة، وليعرض ظُلامته على عمر بن الخطاب نفسه، ولينظر بماذا يحكم.. فهو عادلٌ أمين، لا يحابي في الله أحداً قط كائناً مَنْ كان.

* * *

وجمع الرجل شَعْره وهو حزين النفس، منقبض الصدر، مكلوم الإباء، جريح الكرامة، ومضى يحث خطاه إلى المدينة المنورة ليطرح شكواه بين يدي الخليفة نفسه.

لقد حفظ الإسلام لكلٍ كرامته وعزته، وربّى فيه الإباء والترفع، وصان له شخصيته أن تُهان، وحاط له حقه أن يذل، فلا بد له إذن من طلب حقه، ولو كان خصمه والي البصرة أو غيره، فالحق أكبر من الجميع.

والتقى صاحبنا بالخليفة العظيم، وإلى جواره يجلس المجاهد الشهم جرير بن عبد الله البجلي الذي حدثنا فقال: كنتُ أقرب الناس حينذاك من عمر، فأدخل الرجل يده، فاستخرج شَعْره في غيظ، ثم ضرب به صدر عمر بن الخطاب!..

ولا بدَّ أن جلساء الخليفة ذهلوا لهذه الجرأة الغريبة، لكن الخليفة العظيم لم يتغير قط. ما ثار في وجه الرجل.. ذلك أنه توقع أن يكون قد فعل ما فعل تحت وطأة ظلم قاساه، أو جور حدث له، فهو موتور متألم.. وهو كذلك معذور.

قال الرجل: "أما والله لولا..."، وسكت ولم يتم كلامه.. فقال عمر في حِلم وأناة: "صدق؛ لولا النار..". لقد أدرك عمر أن في الرجل عزة وإباء ورجولة.. كانت حَرِيّةً أن تدفعه إلى البطش بأبي موسى، لولا خوف من الله عز وجل، جعله يحسب حساب النار وأهوالها.

قال الرجل: "يا أمير المؤمنين إني كنت ذا صوت ونكاية في العدو.." ثم مضى يقص الأمر حتى قال: ضربني أبو موسى الأشعري عشرين سوطاً وحلق رأسي، وهو يرى ألا يُقْتَصَّ منه.

وأعجب الخليفة العظيم بهذا الرجل الأبيّ الذي لو كثر أمثاله في الناس لما تجرَّأ أحدٌ على الطغيان!.. ذلك أن وجود الجبناء الأذلاء هو الذي يصنع بطش الطغاة، وظلم المتجبرين. فالطغاة لا يولدون طغاة، إنما يصنعهم ضعف النعاج.

قال عمر معجباً بالرجل، معتذراً عنه: "لأن يكون الناس كلهم على صرامة هذا، أحب إليَّ من جميع ما أفاء الله عليّ". ثم كتب إلى أبي موسى الأشعري يقول له: "فإنْ كنتَ فعلت ذلك في ملأ من الناس فعزمت عليك لما قعدت له في ملأ من الناس حتى يقتص منك، وإن كنت فعلت ذلك في خلاء من الناس فاقعد له في خلاء من الناس حتى يقتص منك".

* * *

ومضى الرجل يحث الخطى إلى البصرة، ودفع كتاب الخليفة إلى الوالي وانتظر. وأسقط في يد أبي موسى، وعلم أن الحق أكبر منه وأعظم.. وفكّرَ وفكرّ، ثم أذعن للحكم العادل، وكان يوماً مشهوداً!..

اجتمع الناس ليشهدوا منظراً عجباً.. وسُرَّ كثيرون بالعدل يأخذ مجراه، وفرحوا بشريعة الله تعلو على الجميع، لكن كثيرين آخرين ودّوا لو أن الرجل يعفو ويصفح، لذا أحاطوا به يطلبون منه التنازل والسماح، ويذكِّرونه بأبي موسى ومكانته الكبيرة بين المسلمين فضلاً وعلماً وتقوى.

وألحّ الناس على الرجل يطلبون منه العفو والسماح، لكنه أجابهم في شد وحزم وصرامة، لا والله، لا أدعه لأحد من الناس.

وأخذ العدل مجراه، وعلت شريعة الله فوق الجميع. وقعد أبو موسى الأشعري بين يدي الرجل ليقتص منه، وصمت الناس، وهدأت منهم الأنفاس، واشرأبت منهم الأعناق، وساد المكان جو من الرهبة والترقب والانتظار.

ووقف الرجل مستعلياً بالحق، ووجد أنه لا أحد قط يمنعه من ضرب أبي موسى عشرين سوطاً، وحَلْق رأسه أمام الناس.. وأحس بكرامته يحفظها له الدين، ويُعليها له الإسلام.. فرفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم قد عفوت عنه!.

وسكت الرجل، وسكت أبو موسى، وسكت الناس.. إعجاباً بهذا الرجل الأبيّ الذي ما سكت على الظلم.. لكنه كان سريعاً إلى السماح وقد ملك أسباب القصاص.

*****

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين