رجال لكل تاريخ

قد لا تكون فكرة مقبولة للوهلة الأولى أن ينصح من هو مثلي علماء المسلمين ومشايخهم ،وقد استهجنها البعض ورأى فيها تعاليا و تطاولا وسوء أدب،الا أن الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم علمنا أن الدين النصيحة وأن منها النصيحة لائمة المسلمين وعامتهم ،هذا وقد لمست عند بعض المخلصين من مشايخنا تجاوبا لطيفا ورقيقا جعلني فعلا أتضاءل أمام عظمة تواضع نفوسهم وعلو هامات هممهم .

بالنسبة لي ماالذي يمكن أن أجنيه من اثارة مشكلات مع من نحسن الظن بهم أكثر من غيرهم ،إن رياح التغيير التي هبت على المنطقة العربية والتي سمحت للاسلاميين أن يدلوا بدلوهم ويشاركوا غيرهم في بناء ورسم الملامح الجديدة للوطن هو ماجعلني استبق الأمور لأنبه الى أخطاء ان أصركثيرمن مشايخنا على الوقوع بها ربما ضيعوا فرصة قلما تسنح عبر التاريخ .
تحدثت سابقا عن عزلة كثير من سادتنا المشايخ عن مجتمعاتهم اجتماعيا وثقافيا وفكريا ،والحق أنهم-وليس كلهم- مع من يلوذ بهم يمثلون واحات من التاريخ معزولة عن أرض القرن الحادي والعشرين ،بلغتهم، بالقضايا التي يثيرونها ،بالطرق التي يتناولون بها مواضيعهم الأثيرة –والتي قد لا تكون أثيرة عند الناس – حتى بنظرتهم الى الآخرين وتقييمهم لهم ،وهكذا يبعد أن يشارك أشخاص لا يتقنون فقهي (التنزيل) و(النوازل )الآخرين في صياغة حياة جديدة معاصرة مستوحاة من الاسلام وتتوافر فيها كل عناصر الابداع والأصالة والحداثة على الطريقة الاسلامية .
 إن من لا يحسنون تنزيل النصوص ، ولا ما انبثق منها ، ولا ما تفرع عنها ، على الوقائع الحياتية المستجدة ، ولا يحيطون بالمجريات الطارئة إحاطة تعصمهم من خطأ التشخيص ، ووصف العلاج الناجع ، لايتصور منهم مشاركة نافعة في صياغة الحياة وفق منهج الله تعالى ، ولا تكون حلولهم المطروحة ذات جدوى ، وهذا ما دلتنا عليه فقرة من حديث أبي ذر- رضي الله عنه- حين سأل الرسول-عليه الصلاة والسلام- عما كانت صحف إبراهيم- عليه السلام- فقال " ...وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه ، مقبلا على شأنه، حافظا للسانه ".
فدراية النصوص وما استنبط منها عبر القرون ، والإحاطة بما يجد في ساحة الحياة إحاطة تجلي أسبابها ، وأبعادها، ومواطن المخالفة فيها والموافقة ، والخلل والصواب منها ، من المؤهلات التي تمكن من المشاركة الواعية في صناعة الحياة الشرعية ، انطلاقا من أنه لا يجد أمر في طريق الحياة إلا وله حكم أومعالجة في النصوص ، ففي قوله " بصيرا بزمانه" نجد فقه الواقع والنوازل ، وفي قوله " مقبلا على شأنه " نجد ما بنى الفقيه عليه نفسه ، وما تضلع به من علوم الشريعة الغراء ، ومقاصدها الكبرى ،ويأتي- هنا- فقه التنزيل على الواقع، ويشير إلى هذا ما جرى مع بعض الصحابة- رضي الله عنهم- حيث إنهم دروا مسائل فقهية ، دون أن يحسنوا تنزيلها، فكان منهم أن أفتوا بما لا يقبله شرع الله- تعالى- قال جابر بن عبد الله: خرجنا في سفر ، فأصاب رجلا منا حجر ، فشجه في رأسه ، ثم احتلم ، فقال لأصحابه : هل تجدون لي رخصة في التيمم ؟ قالوا : ما نجد لك رخصة ، وأنت تقدر على الماء ، فاغتسل ، فمات ، فلما قدمنا على النبي أخبر بذلك ، قال : "قتلوه !!قتلهم الله!! ألا سألوا إذا لم يعلموا ، فإنما شفاء العي السؤال ، إنما كافيه أن يتيمم، ويعصب على جرحه بخرقة ، ثم يمسح عليها ، ويغسل سائر جسده !!".
 أرأيت إلى ضرورة فقه التنزيل ، وخطورة الجهل به!!!! وهنا أتناول أسلوب الخطاب والتواصل مع الجمهور،   وأتحدث على سبيل المثال عن اللغة الأثيرة عند كثيرين من ممارسي الخطاب الاسلامي ،اللغة الانشائية التكرارية التي تعيد المعنى نفسه بكل مرادفاته الممكنة ،والتي تعتمد التبجيل والتهويل واستخدام كل أسماء وتلوينات أسماء التفضيل من أعظم وأكبرو أطهر وأشجع وأعدى وأبغض وأظلم وأشرس،وهكذا تجد حتى الفكرة الهامة والجديرة بالطرح تضيع داخل (أكثر من قلتين )من الكلمات الزائدة ،مع أن القرآن الكريم وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام وما جرى عليه المتقدمون من علمائنا لا تجد فيه أي زيادة في المبنى على قد المعنى ،فمن أين يأتي هذا الاسهال الكلامي عند الكثيرين ؟وهم يدورون حول المعنى الواحد ويطوفون بأكثر من سبعة أشواط.
ويميل معظم من نتحدث عنهم من سادتنا المشايخ الى استخدام عبارات وكلمات كأنها من كثرة تكرارها قد تحولت الى كرات من مطاط تضرب الآذان وترتد عنها دون أن تدخلها ،قد تكون عبارات عظيمة، ولكن التكرار مع عدم محاولة تفجير امكانيات العبارة واظهار استطالاتها وتداعياتها ومعانيها الجوانية يجعلها عديمة المعنى والوزن والقيمة ،وكثيرا ماتجد مثل هذا في خطب الجمعة خاصة بعد أن تم تأميمها من قبل الحكومات ،حيث ترتص العبارات المنمقة وكأنها تنظر الى الناس من علو لا يهمها فهمهم ولا حتى سماعهم ،ان الناس اليوم لا يطيقون المترادفات و المتعارضات والمقفيات والسجع والجناس والطباق ،وليس هذا من باب فقر الدم البلاغي والبياني–وان كان موجودا وبقوة- انما لكل مقام مقال ،والخطاب الاسلامي اليوم يجب أن يكون مباشرا واضحا مسددا ،وعندما يتم استخدام عبارة مطروقة حتى ان كانت من حديث نبوي شريف ،أو حتى آية قرآنية كريمة لا بد من التعامل معها كوردة يجب تفتيحها بعناية ولطف ليتضوع أريجها وتنتشر روائحها الفواحة،وارجع الى كليات النورسي لترى أروع مثال عن ذلك .
كما أن على الخطاب الاسلامي أن يتناسى –ولو مؤقتا- أنه في أرض معركة صحراوية وماعليه الا أن يهجو ويستعدي ويهيج الناس ويدفعهم للهجوم ،لأن هذه اللهجة المستعدية مع أن لها الكثير من المبررات الواقعية لا تفعل أكثر من نصب فزاعات من قصب وضربها بالحجارة مادامت الأسماء لا تسمى بمسمياتها ،ثم يعود كل واحد الى بيته وكفى الله المؤمنين القتال ، أما الأعداء الحقيقيون فلا يجرؤ أحد حتى على الاشارة اليهم هذا ان كان فعلا يعرف من هم وأين يقعون .
أقصد بهذا أن هاجس المؤامرة والاحساس المزمن بالاضطهاد يجب أن يخف ضغط قبضتهما الى حد ما عن عنق الخطاب الاسلامي ،فالمؤامرة موجودة مادام الآخر يعبر بصراحة أن أخلاقياته ترتبها مصالحه ،والاضطهاد موجود ولكن من يضطهد الا الضعيف الذي لا يملك ردا لعدوان غيره ،سئم الناس من أحاديث تعلق كل أسباب النكبات والنكسات والسقطات والانهيارات والتراجعات والاحباطات على الآخر الذي لا يجد مبررا حتى ليدافع عن نفسه ،وحان الوقت لنتحمل كمسلمين مسؤوليتنا ومسؤولية مانحن فيه، والا فان هجاء الدنيا لن يغير من الأمر شيئا .
أعود لأقول انني لا أقول ماأقول الا بدافع الحرص على مستقبل الاسلام في بلادنا والحب لسادتي المشايخ، وعلمي أنني معهم لست مع كهنوت لا يمس ،فهم أول من يقبل النصح والمشورة ،ان خطيب مسجد لا يحضر جمعته الا العشرات أو يأتي اليه الناس قبل اقامة الصلاة هو خطيب فاشل ،لأنه لو كان جذابا في حديثه لاجتمع عليه الناس،وكلنا يعرف مساجد يحضرها الآلاف ويجلس أكثرهم خارج المسجد في الحر والبرد ،رحم الله سيدي الشيخ محمد عوض عندما كان ينهي خطبته قبل صلاة العصر بحوالي نصف الساعة ،وكان الناس يجتمعون عليه بالآلاف ،وان رجعتم الى خطبه لما وجدتم داءا واحدا مما ذكرت في السطور السابقة ،كان رحمه الله قادرا على أن يرفع كل من معه ليصيروا مع أهل السموات مسبحين خاشعين في المحراب السماوي،كان همه أن يفجر ينابيع الخيروالحب من قلوب الناس ،أما من أتحدث عنهم من سادتنا المشايخ اليوم فهمهم استعداء الناس على كنايات واستعارات وألغاز قد لا يفهمها الكثيرون ،ومن فهمها لا يقدر الا أن يقول لا حول ولا قوة الا بالله.
أخيرا أقول ان الأجيال الجديدة وشركاء الوطن بعد تحقيق النصرة باذن الله ينتظرون من الاسلاميين حوارا هادئا علميا لا تكرار فيه ولا انشاء ولا بيان ،حوارا لا يعتمد المبالغات والتهويل، يكون قادرا مع تركيزه واختصاره على صب أروع المعاني في الأذهان ،حوارا معافى من أمراض الهجاء والاستعداء والاحساس بالاضطهاد ،حوارا يثبت ما أمضيت شطرا كبيرا من حياتي أحاول أن أقنع الملاحدة به، وهو أن الاسلام فوق التاريخ وليس من التاريخ ،لأنه وحي الله من السماء بقرآنه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام ،ومنه فان رجاله يجب ألا يكونوا من التاريخ وانما لكل تاريخ،مع كل افتخارنا بتاريخنا الاسلامي .
سادتي المشايخ والعلماء الأفاضل ،أرجو أن تسامحوني على جرأتي وما يمكن أن يراه البعض من سوء الأدب ،انما هي النصيحة والله على مافي قلبي شهيد.
أبو عبيدة

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين