رجال الإصلاح والتجديد

ماهر سقا أميني

من فقه الإصلاح ألا يكرر من يريد كتابة مقال أو إنشاء كتاب ماقاله ويقوله الآخرون حتى أن مايسمى بالمكتبة الإسلامية اليوم يمكن اختزاله إلى أقل من ربعه لكثرة التكرار والاجترار، ففي السيرة النبوية الشريفة مثالاً هناك عشرات آلاف الكتب يبقى في الفكر والبال عدد محدود منها امتازت بأسلوبها أو بقراءة أحداثها وتأمل ملامحها واستخراج دروس منها، وكل ماعدا ذلك هو مجرد تكرار وهدر في الوقت والمال .

ومن فقه الإصلاح أن نذكر رموز الإصلاح والتجديد في (الخلف الصالح القريب منا ومن مشاكلنا) ما يشير إلى استمرار مسيرة الإبداع الإسلامي ونهضته في القرنين الأخيرين، ومنهم كثيرون لا يعرف عنهم الناس شيئاً بل يكادون لا يعرفون بوجودهم، لا سيما أن الأيام أثبتت في هذه اللحظة من التاريخ أن (الثورات) في معظمها فاشلة لأسباب كثيرة ذاتية وموضوعية، وأنه لا بد من العودة إلى مفهوم الإصلاح في الفكر والتربية والاجتهاد، بعد أن شوه نفر من المسلمين المعاصرين صورة الإسلام العظيمة والنقية والإنسانية بغلو غير مقبول وبتطرف غير معقول وبإكراهات غريبة عن يسر الإسلام ورفقه .

ومذهبنا في استعراض رجال الإصلاح في العصر الحديث أن نتناول الرجل في سياق التاريخ الذي وجد فيه، ولا نحكم على أدائه بميزان واحد هو ميزان الحق المطلق أو الباطل المطلق، مستفيدين من تجربته ما ينفع لزماننا من دون حكم أخلاقي أو معرفي على الرجل، بعيدين عن سوء الظن، نحاكم تراث الرجل أكثر من الرجل نفسه ولا نهتم لأقوال خصومه، فتلك أمة قد خلت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، والحكم عليها لله وحده لا شريك له، إنما نذكر ما يناسب في حياة هؤلاء الرجال من أفكار أو مبادئ أو همم عالية ومساع طيبة تنفع لزماننا في تبصير الناس بماهو الأصلح لهم في مفترقات حياتهم الحالية، فنحن هنا أبعد ما نكون عن التعظيم أو التبجيل أو الأيقنة بعدنا عن الاستخفاف والاحتقار والاتهام، لا نعبأ بالاصطفافات المتقابلة ولا بالخصومات الفكرية أو المذهبية أو المدرسية مما لم يورثنا إلا شتاتا وقزامة وفرقة، فلئن نلقى الله عز وجل بحسن ظن بمن لا يستحقه خير لنا من أن نلقاه بسوء ظن بمن لا يستحقه، وما يهمنا من ذكر سير هؤلاء الرجال ما لديهم من أدوية لأمراضنا وبلاسم لجروحاتنا ومنارات على طريق الإصلاح، وكلهم مجتهدون لهم كل الحق في أن يحسنوا فيكون لهم أجران ويخطئوا فيكون لهم أجر واحد .

إن من أكثر الأمور إساءة للنفس والغير هو الانتماء الأعمى الذي يجعل صاحبه يبرر أخطاء من ينتمي إليه ويصور حسنات الآخرين على أنها سيئات ومفاسد، وقد دفعت الأمة أثماناً باهظة لمثل هذه الانتماءات المريضة التي تشل العقل وتبدد الجهود ولا تجمع خير الجميع إلى بعضه، ولي في هذا قدوة حسنة أذكرها هو الراحل أبو الحسن الندوي، رحمه الله تعالى، فقد صنف سفراً عظيماً من أربعة مجلدات سماه (رجال الفكر والدعوة في الإسلام) وقد جمع في هذا العمل رجالاً من مختلف الاتجاهات فكان منهم الغزالي وابن تيمية وجلال الدين الرومي مع أن أتباع كل واحد من هؤلاء الأعلام لا يكاد يطيق أتباع الآخرين، فضلاً عنهم أنفسهم، فقد كان الندوي، رحمه الله، عالماً آفاقياً لا ينظر إلى السفاسف الأرضية المفرقة إنما يغار على الإسلام وأهله فيعترف بقدر كل رجل ترك بصمة في التاريخ أو الفكر الإسلامي، وكان رحمه الله بعيداً عن البيان في غير موضعه وعن السجع وغيره مما كان يعتبر من المحسنات البديعية مما يضيع الفكرة الواضحة والمؤثرة في مخاضات كلام لا يقدم ولا يؤخر، وآمل من الله عزوجل إن قدر لي أن أكتب في هذا الاتجاه أن يقرأ من يقرأ بروح وعقل لا يعترفان إلا بالاسلام وعظمته وملامح الرفق فيه واتساعه لاجتهادات المجتهدين ومساهمات الآخرين حتى من غير المسلمين .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين