ربيع التغيير في العمل الحركي الإسلامي

توجد جوانب عديدة يمكن طرحها حول مضمون العنوان أعلاه إنما يراد في هذه المقالة الموجزة تركيز الحديث على محاور محددة، دون إغفال سعة الموضوع المطروح وما يحتاج إليه من متابعة تفصيلية أعمق.

ولا يتناول الموضوع محور "الإسلام" نفسه، فمحاولات التأثير عليه بمعاداته وعبر الاتهامات والتضليل وعبر الإساءات المباشرة، جميع ذلك موجود قبل حدث ربيع التغيير وسيبقى من بعد، كما أنه موجود قبل ولادة العمل الحركي الإسلامي، وسيبقى من بعد، ويبقى الإسلام كما أنزله الله؛ هو مصدر النظر في تقويم كل ما أو من ينتسب إليه بما في ذلك العمل الحركي. أما المحاور المقصودة في هذه المقالة فهي:

١- مقدمة: ماهية العلاقة بين العمل الحركي الإسلامي وربيع الثورات الشعبية العربية.

٢- المنطلق: أوضاع العمل الحركي الإسلامي في نهاية العقد الأول من مسار ربيع الثورات.

٣- المطلوب: حاجة العمل الحركي الإسلامي إلى ربيع التغيير الذاتي ليكون على مستوى احتياجات مستقبلية.

ماهية العلاقة بالحدث التاريخي

يسود توافق عام أنّ ربيع الثورات الشعبية في المنطقة العربية انطلق انطلاقة شعبية من بداياته، وتجددت موجاته الثورية التالية على النحو ذاته، فلا أحد يزعم أن أزمّة قيادته كانت في أيدي هذه المجموعة أو تلك أو هذا الاتجاه أو ذاك، وإن ظهرت جولات صراع سلبي عديدة وجولات تنافس مشروع معدودة، بين أكثر من اتجاه في كل بلد على حدة.

هذا الوصف للانطلاقة بالشعبية لا يغفل عن أن الغالبية الكبرى من الشعوب مسلمة عقديا، وأن هوية مجموع سكان المنطقة هوية تنتسب إلى إرث دائرة معرفية فكرية وحضارية واجتماعية ذات ارتباطات تاريخية وثيقة بالإسلام وقيمه وتوجيهاته. فكلمة شعبية لا تغفل عن ظهور آثار الهوية الشعبية في الشعارات والفعاليات والأطروحات المنهجية، وهي ذات "نكهة" إسلامية أصيلة وسطية، رغم جهود تشويهها بما نُشر من أشكال التطرف والتعنت قبل الثورات وأثناءها.

إن العمل الحركي الإسلامي واجه مسؤولية كبرى ربما لم يكن استعد لها من قبل، نتيجة ما كان لهذا الانتساب العقدي والحضاري من أثر في بلورة المعالم الكبرى للمسارات الانسيابية للحدث التاريخي، وهذا من البدايات الأولى، وهو ما سيستمر إلى أن يستقر التحول الجذري الجاري في واقع المنطقة، وصحيح أن المآلات الأخيرة في علم الغيب المستقبلي، إنما المقصود بالاستقرار هنا هو ظهور معالم كبرى لتلك المآلات، تسمح بالقول "قد وصلنا" إلى أهم الغايات الأساسية من انطلاقة الحدث.

كلمة انسيابية في وصف مسارات التغيير مقصودة، فلا توجد لحظة ثابتة للمشهد بعد عام أو عشرة أعوام أو أكثر أو أقل، إنما اعتدنا فيما نطرح فكريا أو إعلاميا على البحث عن تواريخ معينة، وأن نتأثر بالأرقام عند جرد حساباتنا، وهو ما يغلب في الوقت الحاضر على أطروحات تتناول ما وصلت إليه المسارات الثورية التغييرية بعد "عقد" من الأعوام، أشعلتها "لحظة" ما صنعه بوعزيزي بنفسه في تونس. ويبقى من الضروري التأكيد على أنه، لا يوجد تقويم بمضمون جازم لحصيلة هذه المسارات الانسيابية فكل تقويم، تحليلي عام أو بحثي محكم، إنما يصف نقطة آنية أو محطة من محطات آنية متتالية، ينطوي كل منها على حصيلة تبدل جزئي سابق بين يدي بذور تبدل جزئي لاحق.

أوضاع الاتجاه الحركي الإسلامي

جميع أصحاب الرؤى الذين سبق وجودهم زمنيا لحظة مشهد بوعزيزي التاريخية، وليس أصحاب الرؤى الإسلامية فقط، ينظرون إلى مسارات الثورات الشعبية ويقوّمونها بمنظور رؤاهم ومعاييرها. هذا ما يسري على العلماني والإسلامي، وعلى القومي والوطني، وما يتفرع عن جميع ذلك. ومن حق أي فريق حركي، إسلامي وغير إسلامي، أن يراجع نفسه ورؤاه ومنطلقاته، فيثبت تفاصيل ذلك أو يعدلها ويطورها ليؤثر تأثيرا أكبر في اتجاه "أهدافه" في المسارات الانسيابية الجارية، ولكن من الأفضل له ولاستمرارية وجوده مع الحدث التاريخي ومن بعده، ألا يغفل عن معايير جديدة أوجدها "الحدث االجديد" عبر ما طرأ من مستجدات خلال عشرة أعوام أو أكثر أو أقل، مرت على انطلاقته.

هذا مما يشير إليه مثلا أستاذ العلوم السياسية ورئيس تحرير موقع "إسلام أون لاين" سابقا هشام جعفر، في التعريف بكتابه "سردية الربيع العربي ورهانات الواقع" الصادر عن دار المرايا عام ٢٠٢١م، إذ يقول:

(هناك سردية جديدة لانتفاضات الربيع العربي تعلن نهايات صيغ القرن العشرين. وفي القلب منها دولة ما بعد الاستقلال والحركات السياسية الإسلامية والعلمانية التي استندت إلى "أيديولوجيات شمولية" وأننا بصدد صيغ جديدة لمّا تَتَمَأسسْ بعد).

ويبدو للوهلة الأولى كما لو أن هذا الطرح يصور "الربيع العربي" لحظةً تاريخية قائمة بذاتها، والواقع أن الكاتب يتحدث عن مسار انسيابي عندما يتحدث عن "نهايات" الصيغ السابقة، وقد أشرف من قبل على عملية حوار بهذا الصدد على مستوى الحركات السياسية في مصر بين عامي ٢٠١٤ و٢٠١٥م، ولمزيد من التفصيل يمكن الرجوع إلى الموقع الشبكي لهشام جعفر[1].

وظهرت قبل تلك النهايات مقدماتٌ سبقت أو واكبت انطلاقة الثورات الشعبية، فتاريخ ٢٠١١م هو بدوره محطة سبقتها محطات تاريخية كبرى أخرى. كذلك فالعلاقات البشرية شهدت من قبل تحولات تاريخية، ومن ذلك مثلا ما صنعه "تسارع" نبض متغيرات عالم التواصل والاتصالات ونبض تقنيات حديثة أوجدت قوالب جديدة للتعبير (وللعمل) الفكري والسياسي والاجتماعي وغير ذلك مما ينطوي على "عنصر تغييري"، فلم تعد حتى "مراكز البحث العلمي" - كمثال - قادرة على التنافس بالوصول إلى نتائج "منفصلة" عن بعضها بعضا، بل تحتم عليها الانفتاح والتكامل فيما بينها، وكذلك التواصل والتشبيك بين أجهزتها وأعمالها، لتواكب سرعة العالم المعاصر، وسرعة تطور احتياجاته.

إن العمل الحركي الإسلامي مسؤول أكثر من سواه عن الارتفاع بنفسه إلى مستوى التفاعل مع المسارات التاريخية الجارية، ولهذا فهو مستهدف أكثر من سواه مع استهداف الإرادة الشعبية الثائرة من أجل التحرر والتغيير.

ويتطلب التركيز على الغرض من هذا الموضوع أن نتجاوز مَن طرح التغييرات "المطلوبة" من العمل الحركي مع رفض المنطلق الإسلامي للعمل أصلا، وتسميته "الإسلام السياسي" كمصطلح مختلف عليه ومستهلك فكريا وإعلاميا، ويوجد على هذا الصعيد كثير من الكتابات لا سيما في فرنسا، أما بالعربية فمثال ذلك ما نشره موقع العربي الجديد[2]، يوم ١٧ / ٧ / ٢٠١٨م بقلم محمد أبو رمان تحت عنوان "الحراك الإسلامي بعد الربيع العربي".

بينما يوجد بالمقابل عدد من الباحثين والكتاب الذين يطرحون التغييرات الواجبة على العمل الحركي الإسلامي مع الحرص على المهمة التي وجد من أجلها، وإن تعددت وجهات النظر في التفاصيل. مثال ذلك ما ورد في مركز دراسات الجزيرة تحت عنوان "التحولات في الحركات الإسلامية - ٦ سنوات ما بعد الربيع العربي"، بإشراف شفيق شقير، بتاريخ ٦ / ٩ / ٢٠١٦م[3].

إن حديث المراجعة والتقويم يعني فيما يعنيه النظر في عوامل القصور الذاتي ضمن العمل الحركي الإسلامي نفسه، إنما لا ينبغي تجاهل العوامل الخارجية أيضا، وهي بالغة الأهمية في مراجعة تقويمية لأوضاعه مع مرور العقد الأول على ربيع التغيير الثوري.

من ذلك: كان نفي وجود تأثير إسلامي على حركة "التحرر" الكامنة في الثورات الشعبية، من حيث "غياب" وجود دور فاعل لتنظيمات العمل الحركي الإسلامي في تحريك تلك الثورات ناهيك عن توجيهها، وبالمقابل فإن الجهود الإقليمية والدولية المضادة للتغيير في ربيع الثورات الشعبية اقترنت بحملات عدائية شرسة ضد ذلك العمل الحركي - وإن استهدفت سواه أيضا - وواكبتها حملات فكرية وإعلامية متحاملة عليه بهدف تشويهه، بينما بقيت حملات الدفاع المشروط محدودة نسبيا، وهذا بمجموعه مع عدم توازنه هو الأرضية التي ساهمت في وصول أوضاع العمل الحركي الإسلامي إلى حصيلة سلبية على وجه الإجمال.

من أهم السلبيات في واقع العمل الحركي في نهاية العقد الأول لربيع الثورات الشعبية العربية ذلك الانفصام المتزايد في ساحات الفكر والعمل بين الجيل الذي نشأ في بداية ربيع الثورات وما زال يمثل الحاضنة الرئيسية لها وبين العمل الحركي الإسلامي بتنظيماته التاريخية وأساليبه التقليدية.

من ملامح التغيير المطلوب

إذا كانت مواكبة التطورات الجارية والمتسارعة بإحداث تطوير ذاتي على أدوات العمل والتغيير في عصرنا أمرا محتما في واقع المجتمعات والدول المستقرة نسبيا، فهي مفروضة عينيا على أدوات العمل والتغيير - كالعمل الحركي الإسلامي وغيره - في واقع مجتمعاتنا ودولنا غير المستقرة عموما، من قبل العقد الأول من حقبة التغيير الثوري، وما زالت غير مستقرة حتى الآن.

١- في مقدمة ما يحتاج إليه العمل الإسلامي بغض النظر عن أشكال ممارسته الحركية وواجب تطويرها هو استعادة علاقة الثقة مع عموم الفئات الشعبية في المجتمعات العربية والإسلامية، في البلدان التي شهدت حراكا ثوريا متفاوت القوة والنتائج، وفي البلدان الأخرى على السواء. وهذا ما يتطلب تطوير الطرح العملي لا الفكري والنظري فحسب، ويتطلب تحقيق إنجازات مرئية وليس الحديث عن أهداف وغايات "جيدة" سواء القديم منها أو الجديد.

٢- لا بد من ظهور قيادات جديدة في مواقع التقويم والتخطيط للعمل، وفي مواقع صناعة القرار وتنفيذه، وهذا بغض النظر عن تسجيل إيجابيات أو سلبيات في تقويم إنجازات القيادات الحالية أو قصورها، لا سيما فيما يتعلق بمواكبة ربيع الثورات الشعبية، فتجدد القيادات شرط لا غنى عنه في مواكبة المتغيرات، مثل ما يصنعه ربيع الثورات الشعبية في مختلف الميادين الفكرية والاجتماعية والعمرانية، وهذا ما لا يقتصر على سقوط أنظمة وقيام أخرى، بل يشمل مجموع البنية الهيكلية للمجتمعات والدول.

٣- لا غنى عن بذل جهود قصوى وعاجلة في ميدان التغيير الضروري للبنية الهيكلية للعمل الحركي، وفق رؤى حديثة تعتمد التشبيك مكان التنظيم، وتجمع بينهما في حالات التعاون العلمي التخصصي، وتعتمد التكامل بين الإنجازات مع سلوك طرق التخصص في تحقيقها، وتعتمد التقنيات الحديثة في مختلف الميادين.

٤- لا يتحقق شيء مما سبق دون اعتماد طرق التأهيل والإعداد والتدريب إلى جانب اتباع الطرق الحديثة في التعليم والتربية، ومع مواءمة أحدث ما وصلت إليه المجتمعات الحديثة على هذا الصعيد، مع منظومة القيم الذاتية العقدية القويمة والحضارية الإنسانية، كما نعرفها عن الإسلام كما أنزله الله عز وجل لخير جنس الإنسان في دنياه وفتح أبواب الخير له في آخرته.

والحمد لله رب العالمين.

المصدر: العدد العاشر من مجلة "مقاربات" الصادرة عن المجلس الإسلامي السوري

[1] الموقع الشبكي لهشام جعفر: (https://heshamgaafar.com)

[2] انظر (https://www.alaraby.co.uk)

[3] انظر (https://studies.aljazeera.net/ar/files/2016/09/6-160922142449696.html)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين