ذو النون المصري بين التصوف والأدب

 

شخصيَّة ذي النون كما تبدو من سيرته والأقاصيص الكثيرة التي نُسجت حوله تصوِّر خاصيَّة من أهم خصائص العقليَّة المصرية وخُلقاً من أثبت أخلاقهم وأعمقها، كما تصوِّر لنا لوناً من ألوان الخيالي الشعبي المصري الفنَّان، و نحن إذ نقرأ سيرة ذي النون العابد المتصوِّف والآخذ بحظ من الفكر الفلسفي في عصره، نقرأ فيها أيضاً صفات الأدب المصري والاتجاهات التي يَميل إليها المصريون في قصصهم، والشخصية المثاليَّة التي يكبرونها ويمجدونها ـ فالعقليَّة الشعبية قد تصور الأشخاص الذي نكبرهم في صور خياليَّة شائقة ـ وليست في الواقع صورهم ولكنها الصور التي يحبها الناس ويتمنَّون وجودَها.

وفي العصر الإسلامي كانت شخصيَّة ذي النون محوراً لهاتين الصفتين ـ فهو رجل دين وتصوف أشبع رغباتِ المصريين، وهاج خيالهم فنسجوا حوله أقاصيص كثيرة جعلت سيرته صورة من الأدب المصري أكثر مما صورته حياته الحقيقية.

ظهر ذو النون في القرن الثالث الهجري وتوفي سنة 245هـ، ويقول الكندي: إنَّ المصريين مالوا إلى التصوُّف منذ نهاية القرن الثاني فذو النون إذن جاء في موعده إذ ظهر في الوقت الذي صبت فيه العقليَّة المصرية إلى مثله ـ وزاد من قدره أنَّه كان أستاذاً لكثير من كبار الصوفية الذين كانوا بدورهم أساتذة لصوفية آخرين، ويقول القشيري: إنَّه أوحد وقته علماً وورعاً، وحالاً وأدباً.

اسمه: ثوبان بن إبراهيم ويكنى أبا الفيض، وقيل: اسمه الفيض بن إبراهيم، واشتهر باسم ذي النون، كان أبوه نوبياً وكان حارساً لبعض المعابد المصرية في إخميم، وله ثلاثة بنين آخرين، ويقال: إنَّ ذا النون هذا كان يَعرف اللغة المصريَّة القبطيَّة لغة قدماء المصريين تعلمها من الكتابة التي على المعابد ومن بعض الرهبان الذين كانوا يعرفونها. 

ويقال: إنَّه رأى مكتوباً بأحد المعابد: يقدر المقدرون والأقدار تضحك، فأعجبته هذه العبارة، ثم كانت سبب تصوفه وزهده. 

وليس من البعيد أن يَعرف ذو النون اللغة القبطية، وهو يعيش بين البراري ويخالط الرهبان، وليس من البعيد أن يكون على معبد مثل هذه العبارة، ولكنا نلاحظ أنَّ القصة تحتذي تماماً قصة سقراط إذ رأى مكتوباً على واجهة معبد دلفيا عبارة: اعرف نفسك، فاتخذها أساسَ فلسفته، ثم إنَّ ضحك الأقدار وسخريتها من أطماع الناس ليست حكمة عميقة ولا مما يندر سماعه. 

وقد سأل بعض الناس ذا النون وهو في حلقة درسه عن سبب توبته فذكر أنَّه وهو في بعض أسفاره رأى قبَّرة عمياء سقطت من وكرها على الأرض فانشقَّت الأرض وخرج منها سُكرُ جنان إحداهما من ذهب والأخرى من فضة، وفي إحداهما سمسم وفي الأخرى ماء فجعلت تأكل من هذه وتشرب من تلك فقلت: حسبي ولزمت الباب إلى أن قبلني ربي!!. 

ويدلُّ هذا على أنَّ القصة الأولى غير متفق عليها ولكنها أدنى للقبول ومادتها عقلية، أما هذه ففضلاً عن سذاجتها يبدو فيها العنصر المادي وخيالها ساذج؛ إذ القبرة حتى لو كانت غير عمياء لا تميز بين إناء الذهب والفخار، ويستوي عندها حب السمسم والشعير وليس في ثمين الطعام وفاخر الإناء لها تكريم.

وقد كان ذو النون على أي حال ذا مكانة ملحوظة في عصره وله أثر عظيم في الفكر المصري ـ فهو أول من تكلم في الأحوال والمقامات والحب الإلهي والكشف والعلم الباطن ( ). ففتح بهذا باباً واسعاً للمتصوفة من بعده، ووضع مادة خصبة للفاطميين وأتباعهم، كما أنه أثار خصومات كثيرة حوله واتهم بالزندقة من فقهاء مصر والفقهاء أعداء الصوفية في كل مكان. 

حاربه عبد الله بن الحكم شيخ المالكية وابن أبي الليث شيخ الحنفية، والقائل بخلق القرآن وسببت هذه مشكلة أخرى لذي النون إذ رفض الإقرار بهذا الرأي وقد سيق إلى بغداد فسُجن هناك مدة، حتى أطلق المتوكلُ سراحَه وأعاده إلى مصر مُكرَّماً وقد أعجب المتوكل وعظه وبكى لسماعه.

أما أسفاره التي كانت مادة خصبة للأقاصيص التي نسجت حوله فهي أسفار واسعة حقاً فقد سافر إلى المغرب وبيت المقدس وأنطاكية واليمن ومكة والمدينة عدا تنقلاته الكثيرة في صحاري مصر وطور سيناء، ويظهر أنه حج غير مرَّة، وفي حجه قابل كثيراً من رجال التصوف فأخذوا عنه واستفادوا من علمه. ويذكر القشيري عدداً كبيراً لهؤلاء الذين أخذوا عنه واستفادوا من علمه وتصوفه. ( ) 

وإذا نحن راجعنا القصص التي نُسجت حول رحلاته تجد فيها عنصرين بارزين: هما عنصر الماء وعنصر النساء، وإن كان هناك أقاصيص تخلو منهما.

قيل إنَّه خرج للحج في سفينة وكان بها غلام معه بضيعة في قفص ونام ذو النون في جانب من السفينة حتى أيقظه ركابها فأخبروه أنَّ الغلام فقد صرَّة بها نقود له ويتهمه بسرقتها إذ أنَّهم فتَّشوا ركابَ السفينة جميعاً فلم يجدوها ولم يبقَ غيره، وسأل ذو النون الغلام أحقٌّ ما يقولون؟ فأجاب نعم، فلم يقل ذو النون شيئاً، وإنما انحنى على جانب السفينة فتوضأ من النهر وصلى ركعتين وأشار إلى البحر فإذا هو ممتلئ بحيتان تتجه كلها نحو السفينة فاغرة أفواهها حتى خاف الركاب على أنفسهم وتمنوا لو أنهم لم يقولوا له شيئاً، وكان كل حوت في فمه صرة فأخذ ذو النون واحدة منها أعطاها الغلام، وقال: خذ هذه بدلاً من صرَّتك التي فقدت.

فالعنصر المائي كما ترى له أثر ملحوظ في خيال القصة.

ومرة ثانية وذو النون بطريق الحج في أرض الحجاز انقطع عن الركب وضلَّ الطريق، فلما أجهده السير أوى إلى شجرة في سفح الجبل ليستريح في ظلالها، وحين غابت الشمس وأظلَّه الليل رأى شاباً يخرج من كهف في الجبل فعمد إلى كومة رمل فركلها بقدمه فانبجست منها عين تبض بالماء فشرب منها وتوضأ ثم قام يصلي، وقام ذو النون من خلفه وهو لا يشعر به فما زال يتابع صلاته حتى انشقَّ عمود الفجر، فنهد الشاب وقال: ذهب الليل بما فيه وأتى النهار بدواهيه، خسر من أتعب جسمه في غير مرضاة ربه. ولما أخبره ذو النون بنبئه، قال: ويحك وهل يقطع الله مدده عن عباده؟! ثم قال: اتبعني، فتبعه ذو النون فكانت الأرض تطوى طياً تحت أقدامهما حتى تراءت لهما القافلة، ودَنَوا منها، فقال له: هؤلاء قومك فالحقْ بهم، ولم يَرَه ذو النون بعد.

فقد حرصت هذه القصَّة على إبراز العنصر المائي حتى في جوف الصحراء، ويبدو أنها وُضعت في وقت مُتأخر تقدَّمت فيه الصوفيَّة العملية وأخذ دعاتها يستحثون الناس أن يروضوا أنفسهم على مشقاتها ـ من الخلوة والانقطاع للعبادة وسهر الليل ـ ويتبين لهم ما يترتب عليها من ظهور الخوارق وتذليل الصعاب ـ فهي تشبه أن تكون طريقة مدرسية، وقد اختارت عبارات موحية ـ مثل حديث الشباب عن الليل وما فيه من خير ـ ومثل قوله: خسر من أتعب جسمه في غير مرضاة ربه ـ وهذا المنحى التعليمي يبدو في كثير من قصص ذي النون.

أما العنصر النسائي فيبدو في قصص أخرى ولكن يلاحظ أنَّ معظم النساء اللائي قابلهن ذو النون كن نوبيات أو جشيان أو ذوات لون أسود بوجه عام، ولعل ذلك بسبب التأثر بشخصية النوبية ولبيان أن سكان الجبال والصحارى أقرب إلى التدين من سكان المدن. وقد كانت رحلات ذي النون بين الجبال والصحارى فكان من المناسب أن يقابل بها هذا النوع من النساء، كما أنه قابل بها هناك رجالاً أيضاً من هذا النوع.

بل واحدة متولهة لا تود أن يشغلها شيء عن ذكر الله وقد تحدث إليها فكان من كلامها.

ذكرنا وما كنا لننسى فنذكر *** ولكن جمال الحق يبدو فيبهر 

ثم أخذت في الشهيق والزفير وذهلت عنه وعن حديثه.

ورفضت إحداهنَّ أن ترد عليه، فلما ألحَّ عليها قالت: وما للرجال أن يكلموا النساء لولا ضعف عقلك لشدخت رأسك بشيء.

فالأقاصيص الكثيرة التي حفظتها لنا كتب التصوف عن ذي النون تصور لنا لوناً من الأدب الصوفي الشعبي في مصر وتبرز بوجه خاص ما يمتاز به المصريون من عمق التدين وسعة الخيال.

لون آخر من الأدب تظهره سيرة ذي النون وهي الحكم والنصائح التي أثرت عنه، ولا نجد ما يحملنا على الشك في شيء منها، وهي تصور أكثر من كل شيء تهوين الدنيا وتدعو للعزوف عن متاعها شأن الفكر الصوفي عند جميع المتصوفين. 

والحق أنَّ أثر ذي النون المباشر في الأدب بما ترك من نصائح وحكم أقل من الأثر غير المباشر الذي تصوره أقاصيصه المتنوعة. 

وعلى أي حال فشخصية ذي النون مزيج من التصوف والأدب.

 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: مجلة الأزهر السنة الخامسة والثلاثون رجب 1383هـ، الجزء الخامس بتصرف يسير.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين