ذكرٌ جميلٌ لأيامٍ في القدس والخليل (9)

الخانقاه الصلاحية:

وأقبلنا إلى الخانقاه الصلاحية بالقرب من كنيسة القيامة الساعة الثانية والربع، أوقفها السلطان صلاح الدين في سنة 583/1187، ونفذنا فيها من مدخل كبير يؤدي إلى ممر موزع ينفتح على صحن مكشوف، ثم هبطنا إلى خلوة أرضية كبيرة قيل إن صلاح الدين رحمه الله قد اعتكف بها، ويضم البناء أيضًا صالة للطعام ومكانا للتدريب العسكري.

والآن يسكنها بعض الناس، والخانقاه مغلقة، وجزء منها مسجد عامر، وجزء منها مدرسة، وفيها روضة مدرسة الهدى، ثم صعدنا فوق المبنى من سلم حجري يؤدي إلى الطابق الثاني، فيه مجموعة من القاعات والغرف، وعلق فوقه نقش كتابي على لوح من الرخام يحمل اسم المنشئ وهو عيسى بن أحمد بن غانم وسنة الإنشاء 741هـ/1340م.

المارستان الصلاحي:

شخصنا من الخانقاه في الساعة الثانية والنصف ومررنا بالمارستان الصلاحي غربي المسجد الأقصى، أنشأه الملك صلاح الدين سنة 583ه/1187م، ورصد له أوقافاً جزيلة، وعين له بعض مشاهير الأطباء في عصره، كان الطب يدرس فيه أيضاً إلى جانب تقديم الخدمات الطبية المختلفة للمرضى، وكان مكوناً من فناء أوسط مكشوف تحيط به بائكة من دعامات وعقود حجرية، وتتقدم هذه البائكة قاعات مختلفة المساحات ومتنوعة الأسقف، وكانت كل قاعة معينة لتخصص طبي مثل الكحالة (أمراض العيون) والطبائعية (أمراض المعدة).

ذاع صيت هذا البيمارستان في عهد صلاح الدين وفي العهود التي تلته، إذ كان يداوي الجرحى والمرضى من الجنود وعامة السكان، وتوزع الأدوية والعقاقير على الناس بلا مقابل.

وفلسطين بل سائر بلاد الشام حافلة بأيادي السلطان صلاح الدين الجسيمة:

أخ وأب بر وأم شفيقة

تفرق في الأبرار ما هو جامعه

سلوت به عن كل من كان قبله

وأذهلني عن كل من هو تابعه

إلى المسجد:

ثم انقلبنا إلى المسجد الأقصى، وعلى الباب الحرس يفتشون على العادة، فلا يسمحون بالدخول إلا لمن تأكدوا من إسلامه، ومعنا سيدة بيضاء اعتنقت الإسلام قريبا، ظنوا أنها غير مسلمة، فسألوها أن تقرأ سورة الفاتحة، فلما قرأت وتأكدوا من إسلامها أذنوا لها.

باب الرحمة:

وعطفنا على باب الرحمة، وهو باب عظيم مغلق في الجدار الشرقي، ويوجد داخل مبنى مرتفع ينزل إليه بدرج طويل من داخل الأقصى، مكون من بوابتين: الرحمة جنوبا والتوبة شمالا، يعود بناؤه إلى عهد عبدالملك بن مروان، بدلالة عناصره المعمارية والفنية. وقد بقـي الباب مفتوحـاً حتّـى اعتدى عليـه الصليبيون ودخلوا منه المسجد، فقتلوا المسلمين ومثلوهم تمثيلا، فأغلق صلاح الدين هذا الباب حماية للمدينة والمسجد من همجية الهمجيين.

زاوية الغزالي:

ومررنا بزاوية الإمام الغزالي التي اعتكف فيها أعلى باب الرحمة، وكان يدرِّس في المسجد الأقصى المبارك، وفيها وضع إحياء علوم الدين، وهي في ساحة واسعة تسمى ساحة الغزالي، وهنا مقام سليمان عليه السلام، وبجانبه سجن الجن تحت الجدار.

مقبرة باب الرحمة:

ثم برزنا من باب الأسباط متجهين إلى مقبرة باب الرحمة، وهي بجانب السور الشرقي للمسجد وتمتد من باب الأسباط إلى نهاية السور بالقرب من القصور الأموية في الجهة الجنوبية، فزرنا فيها قبر عبادة بن الصامت المتوفى سنة 34هـ، وقبر أبي يعلى شداد بن أوس بن ثابت الأنصاري، سكن القدس، وتوفي بها سنة 58هـ، وزرنا بها قبورا أخرى لمجاهدين اشتركوا في غزو القدس أثناء الفتحين العمري والأيوبي، وقرأنا الفاتحة ودعونا بدعوات لنا ولهم.

لعمري لقد وارت وضمت قبورهم

أكفا شداد القبض بالأسل السمر

يذكرنيهم كل خير رأيته

وشر فما أنفك منهم على ذكر

 

مهد مريم عليها السلام:

واجتزنا كنيسة سانت آنت، يقال إنها مولد مريم عليها السلام، بناها الصليبيون سنة 1138م، وفي 1192م أي بعد أعوام من تحرير القدس حولت إلى المدرسة الصلاحية، وقد نقش اسم المدرسة على المدخل، واحتلت مكانة علمية كبيرة في القدس.

رجوعنا إلى الفندق:

ورجعنا إلى الفندق قبل الساعة الرابعة وصلينا العصر واسترحنا قليلا، ثم استيقظت واغتسلت وقرأت شيئا من القرآن الكريم، وسألت بنتي أن تراجعا دروسهما في العربية.

أفطرنا في مطعم الفندق، وصلينا هنا المغرب، وسيكون اليوم كلمة للشيخ أبي سنينة أمام المجموعة بعد العشاء والتراويح.

كلمة الشيخ أبي سنينة:

تفضل الشيخ يوسف أبو سنينة إمام المسجد الأقصى بزيارتنا في الفندق بعد التراويح، وألقى كلمة بعد الثانية عشرة ليلا، قال فيها: أنا سعيد جدا إذا رأيت المسلمين من المملكة المتحدة يزورون المسجد الأقصى، لأن هذا المسجد ليس للعرب وحدهم، بل للمسلمين جميعا، وينبغي للمسلمين أن يزوروه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، فلا أدري لماذا يقتصر كثير من المسلمين على زيارة المسجدين هاجري المسجد الأقصى، نحن تحت الاحتلال، ونريد أن تساعدونا بزيارته، فالرسول صلى الله عليه وسلم أسري به إليه، ومنه كان المعراج، وهي القبلة الأولى للمسلمين.

قدم عمر بن الخطاب إلى القدس سنة 15 ونزل من جبل المكبر، وسمي بذلك لأنه لما صعده قال: الله أكبر، ودخلها أربعة آلاف صحابي، وكان عبادة بن الصامت أول معلميها وقضاتها، ثم جاءها الصليبيون سنة 492ه وقتلوا سبعين ألف نفس، فحررها صلاح الدين منهم بعد تسعين سنة، وبقيت تحت سيطرة المسلمين حتى استعمرها البريطانيون لمدة خمس وثلاثين سنة، ثم احتلها اليهود سنة 1948م، والوضع هنا سيء للغاية، أغلقوا كل شيء للمسلمين في القدس، لا وظيفة لنا ولأولادنا هنا، وتدبر مؤامرات أثيمة لتهجير العرب منها، يعجبنا قدومكم من بريطانيا، ونسألكم أن لا تزورونا في رمضان فحسب، بل في غير رمضان كذلك، ففي هذه الزيارات دعم كبير لإخوانكم في القدس وسائر بلاد فلسطين.

نحن صامدون في وجه المؤامرات والأزمات، وندعو الله عز وجل أن يثبت أقدامنا ويجعلنا مرابطين وينصرنا نصرا مؤزرا.

انظر الحلقة السابقة هـــــنا 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين