ذكريات خارجة عن النص

لازلت أذكر تلك اللحظة في صيف عام 1997 عندما أحضر لنا أبي جهاز كمبيوتر IBM وكانت أول مرة أسمع فيها نغمة ويندوز 95 المميزة. تلك الذكرى مطبوعة حتى الآن في ذاكرتي ولا تكاد تغيب عني كالبارحة. 

كان اندهاشي الأعظم حينها وأنا أراقب سهم مؤشر الماوس ، هذا الشيء الغريب الذي يتحرك يمينا وشمالا على الشاشة. وكان أول برنامج استعملته يومها هو برنامج الرسام الذي يأتي مدمجا مع الويندوز. صاحب ذلك طبعا أول اتصال بالانترنت وسيمفونية الموديم.

عشت الكثير من (المرات الأولى) ، أذكر أول مرة اقتنيت فيها هاتف جوال، وأول مرة أصعد فيها إلى الطائرة وأول محاضرة جامعية في حياتي، وأول فرصة عمل، وأول راتب، وأول خطاب لي أمام الجمهور، وأول مرة أزور فيها طبيب الأسنان وتمنيت لو أنها الأخيرة، وطبعا أول مرة تحب ياقلبي! وغيرها الكثير من ذكريات المرات الأولى العالقة في الرأس ، تضحكنا وتبكينا، وكيف تصرَّفنا في كل منها. ذكريات سعيدة أحيانا ومؤلمة أحيانا آخرى. ماذا عنك، ماهي المرات الأولى التي لازلت تذكرها، وكيف كان وقعها عليك؟ ماهو أول قرار مصيري اتخذته وأول ربح وأول خسارة وأول عشق. أول مرة تخرج فيها عن المألوف وأول وردة في حياتك. وأول مرة تشعر فيها بالحنين للوطن. وأول مرة قابلت فيها أخا لك لم تلده أمك ، وأول مرة تفقد فيها شخصاً عزيزا على قلبك.

لكل شيء في الحياة مرة أولى ، من أول نفس نأخذه، وأول خطوة، وأول كلمة، وأول انجاز ... أحيانا نمتلك الشجاعة لنجرب رياضة خطرة أيام الصبا والشباب وأحيانا نرتعد خوفا ونتراجع ونتخلى عن ما كان يمكن أن يكون يوما من العمر!

الكثير من المشاهير والشخصيات المؤثرة عالمياً خاضوا تجربة المرة الأولى وعاشوا تحدياتها. لاري كنغ، أعظم المحاورين على مر التاريخ وأعلاهم دخلا على الإطلاق، أجرى أكثر من 50 الف مقابلة مع شخصيات سياسية عالمية من رؤساء دول وزعماء ومشاهير. في أول ظهور له وعندما أمسك بالمايك لم يستطع التلفظ بكلمة واحدة في إذاعة ميامي. فاضطر مهندس الصوت إلى أن يرفع الموسيقى ويخفضها عدة مرات حتى يعطيه فرصة ليلتقط إشارة بدء الحديث. لكن خانه لسانه ولم يفعل. فدخل عليه مدير المحطة مُحمرَّ الوجه غاضبا منفعلاً وقال له: أرجوك! إنها مهنة تواصل. عندها انقلب خوفه الى جرأة ، ونطق أخيرًا وخط السطر الأول في مسيرة إعلامية امتدت أكثر من 60 عام.

حاول أن تزيد من المرات الأولى في حياتك لكي تخلق العديد من الذكريات السعيدة وتعطي لحياتك معنى وقيمةً لك ولمن حولك. ليس بالضرورة أن تكون المرة الأولى شيئًا كبيرًا جدا، فأحيانا تجربة نوع جديد من الطعام أو زيارة مكان جديد أو تعلم هواية مختلفة بعيدة عن ما تألفه هو كل ما تحتاجه لتحصل على مغامرة رائعة.

أعتقد أن المرات الأولى في حياتنا حتى وإن كانت مؤلمة فهي مهمة لأنها خالدة. وكل ما عليك فعله هو أن تؤمن أن كل يوم هو قطعاً يوم فريد في أحداثه وفُرصِه فلا تستهن به. فقط اسمح للأمور أن تحدث، حتى لو كانت المرة الأولى. 

دع الأحاسيس تتحرر من مكانها وشُق طريقك قبل أن تغرق في بحر من الروتين القاتل. اخرج عن المألوف والمعتاد والقوالب التقليدية. لا تكن أسير مساحتك الآمنة والمريحة والخالية من الشغف ولذة الاكتشاف.

اصنع من المرة الأولى قصة تحكيها لأطفالك واحفادك. فالحب الأول قد يكون الحب الوحيد. والمرة الأولى قد تكون الاخيرة. 

وتذكر دائما: لا تنتهي المرات الأولى إلا بانتهاء الحياة .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين