
اللوحة الخامسة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وهذه اللوحة الخامسة من ذكرياتي مع سيدي الشيخ نذير الحامد تغمده الله بواسع رحمته وكرمه آمين.
دخل إلينا ذات يوم وقال : قبل أن نبدأ درسنا عندنا مهمة :
ما رأيكم إذا أنجب رجل ولدا واعتنى به وربّاه وصار ذلك الولد - ونظر إلى طالب طويل - أطول من أبيه ، وزيّنه الله بشارب في وجهه - ونظر إلى طالب له شارب جميل-
ثمّ تابع أو اكتملت لحيته فأكرمها وأكرمته - ونظر إليّ-
أقول:أليس من غيراللائق بهذا الأب أن يستصغر ولده هذا أو يستهين به ؟
فأجاب الطلاّب بحماس : طبعا...طبعا…
فقال : عظيم . ومهما كبر هذا الولد ونال من الشهادات أليس معيبا أن يستهين بوالده . فوافق الجميع .
فقال: لقد طلبت الإدارة منّا إنجاز ( الوظيفة الشهرية ).
ومسألة : أن أعطيكم أسئلة تنقلون إجابتها من عاطف مثلا وأستلمها فأجد نفسي في مأساة تضيّع ثمين وقتي . أصحّح أجوبة متماثلة تصحيحها مُملّ جدا.عملية غير كريمة وغير لائقة في التعامل فيما بيننا .أليس كذلك ؟
قالوا : بلى .
قال فما رأيكم أن نقوم بوظيفة شهرية فيها التكريم اللائق من المعلّم لطلابه الشباب. وفيها الاحترام والمصداقية من الطالب مع معلمه . مع الفائدة المزدوجة .
قالوا : يامرحبا . كيف ستكون هذه الوظيفة ؟؟؟
قال : هذا ما فكّرت به طويلا حتى وصلت إلى الحلّ ، هو أن أعطي كل ّواحد منكم وظيفة خاصّة به مختلفة عن زملائه .
قالوا : موافقون .
فما كان منّي إلاّ أن انكبّ وجهي على الطاولة فوق ذراعيّ وقلت : وا أسفاه لقد ورّط الشيخ نفسه . فنحن خمسمئة طالب من أين سيسدّ هذه الثغرة ؟ لكنّه تابع حديثه قائلا :وقلت لنفسي ما الوظيفة التي تستطيع تغطية هذا العدد ؟ فلم أجد إلاّ ( أعلام المسلمين) فطرت فرحا ، لقد نجح الشيخ فأعداد أعلام المسلمين أكبر بمئات المرّات منّا . ثمّ تابع قوله: لكلّ واحد منكم علم من أعلام المسلمين خاصّ به . فيستفيد هو من مطالعته ويتعرّف عليه . وأنا عند قراءة ورقته أستفيد أيضا ولا أشعر بالملل .
أبدى الطلاب إعجابهم بهذا الإبداع .
فقال : أتريدون أن أزيدكم سرّا ؟ قالوا : نعم . قال هامسا وكأنه يقول سرّا حقيقيا : أحتفظ أنا بهذه الأوراق عندي وكأنّي قد حصلت على كتاب مجّانا .صدّق الطلاب ما سمعوا .
فقال : سأعطي الطالب اسم العلَم وأعطيه اسم الكتاب الذي سيأخذ منه المعلومات فإن وجد أكثر من ثلاث صفحات : يحقّ له الاختصار .وإن وجد ثلاث صفحات أو أقلّ ينقل الكتابة نقلا حرفيا ويأخذ الدرجة تامّة .
ثمّ شرع ينادي اسم الطالب ويعطيه اسم الصحابي أو التابعي ، ثمّ اسم الكتاب ، بل زاد على ذلك مكان الكتاب : دار الكتب الوطنية . المركز الثقافي العام . المركز الثقافي في الفردوس ...ويدون عنده .
فلمّا صاح اسمي قال لي : لا … أنت سأعطيك وظيفة غير هذه : لخّص لي أشراط الساعة . ولمّا أتمّ التوزيع . قال: ياشباب متى تحضّرونها ؟ قالوا: الثلاثاء القادم .
قال: بل أعطيكم مهلة للثلاثاء الذي يليه على أن تحضروها تامّة كاملة عمل رجال فإن احتاج أحدكم إلى استفسارخلالها أجبته .
وجاء درس التربية الإسلاميّة فرفع طالب يده قائلا : ياأستاذ أنا لم أجد الصحابي المطلوب . فسأله عن اسم الصحابي واسم الكتاب فأجابه والأستاذ يفكّر ثم قال : مستحيل موجود يقينا . كرر الطالب : لكنّي لم أجده . فقال له الأستاذ لعلّك وجدت قليلا من الكتابة عنه يعني : هو فلان ابن فلان ولد سنة كذا توفي سنة كذا… ؟ - وذكر له حوالي ستة أسطر عنه - فقال الطالب : نعم .قال الأستاذ: أليست أقلّ من ثلاث صفحات ؟ قال : نعم . فقال له : ونحن علام اتفقنا ؟ قال : أنقلها نقلا حرفيا .قال إذن نفّذ ولك الدرجة التامّة .
وسأل آخر فقال له كذلك . وسأل ثالث، فقال له: اسكت ولَكْ في أكثر من خمس صفحات وكان الطلاّب يدققون فيما يقول ويجدونه في منتهى الضبط فتمادوا...وهو يجيب لكنّه قاطعهم وقال ممازحا : ولك أنتم تمتحنونني ؟؟؟ أتحدّاكم ...
أستطيع أن أقول لكم: من أين يبدأ الحديث عن العلم في الكتاب من الصفحة اليمنى أم من اليسرى ؟ ومن أوّل الصفحة أم وسطها أم آخرها . قالوا : قبلنا التحدّي .قال أحدهم ممازحا: آه لوكان الرهن يجوز كنّا خسّرنا الأستاذ صينية كنافة . فقال الأستاذ: سنرى . أشعنا الخبر بين طلاّب المدرسة . فأخبر كلّ من سأله عن العلم المناط به . كما أخبره من أين يبدأ ولم نمسك عليه غلطة ولو صغيرة .
هنا تبيّن لنا عمق علومه . وأدركنا أنّه كان يداعبنا عندما قال أنّه سيحصل على مرجع بالمجان . وأنّنا ظننا أنّه سيستفيد كما نحن سنستفيد . وعلمنا أنّ من يخونه القلم فيغلط في معلومة ستشطب بالأحمر .
راح الطلاّب يتغنّون بتبجيل أستاذهم بعد هذا الموقف ، وقناعتهم أنّه ذو أفق في العلوم الدينية كلّها وعلوم اللغة العربية والفلسفة وبمثل هذا المستوى الذي اكتشفناه .
هذه الحادثة أردت أن أخصّ بها اللوحة الخامسة لتعريف من لم يسعد بالتعرّف على هذا العلاّمة الحبر في حياته .
وإلى اللقاء في اللوحة السادسة وما قبل الأخيرة لنتعرّف على أفق آخر من آفاقه لم يسبق الحديث عنه .
رحمة الله عليه، وجزاه الله عنّا كلّ خير آمين.
اللوحة الرابعة هنا

التعليقات
يرجى تسجيل الدخول