ذخيرة الأسرار

1- الجزاء من جنس العمل:

إن الساعيَ في إخفاء عمله إنما سعى ليصفوَ له القلب، وينقيَه من ذكر الخلق، ويقضيَ على حُبِّ المحمدة، فأكرمه الله لحسن مقصده، وجازاه من جنس عمله، فَصَفَّى له قلبَه، ورفع له ذكره، وانتشر فضلُهُ في الناس، جزاءً بما كانوا يعملون، والله تعالى أعلم،،

ينسى صنائعه والله يظهرها=إن الجميل إذا أخفيته ظهرا

2- أنموذج مُصَغَّر:

جعل الله عزَّ وجلّ الدنيا أنموذجًا مصغرًا عن الآخرة، فمثلًا: الحيوان المفترس والعقارب ونحوُهَا دلالة تُذَكِّرُ بالنار، أما الحدائق والأنهار فمَشاهِدُ تُذَكِّرُكَ بجنات النعيم، وعليه:

لما كانت القيامة فيها تُبْلَى السرائر، إنْ خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، فناسب أن تُكشفَ الأسرار في الدنيا جملة لا تفصيلًا، ألا ترى أن الله عزَّ وجلّ نقل إلينا ذنب آدم كما نقل إلينا توبته؟!، وَعَرَّفَنَا بِصَنِيع يونس عليه الصلاة والسلام كما علمنا دعاءه، وأنه من المسبحين؟!، فالدنيا صورة عاكسة عَمَّا في يوم القيامة، من جنةٍ ونار، ونعيم وجحيم، والله تعالى أعلم.

3- أبى الشيطان إلا فضيحة أتباعه:

أفاد بهذا السر كاشف الأسرار ابن القيم، فقال:

إن الشيطان يأمر العبد بالمعصية، ثم يلقي في قلوب الناس يقظة ومنامًا إنه فعل كذا وكذا، فيصبح العبد والناس تتحدث بذنبه، وما ذاك إلا أن الشيطان زينه له، وألقاه في قلبه، ثم وسوس إلى الناس بما فعل، والعبد لا يشعر بأن عدوه ساعٍ في إذاعته وفضيحته، وقل من يتفطن من الناس لهذه الدقيقة! ابن القيم / بدائع الفوائد (2/482).

من فرائد الفوائد

1- سؤال وجيه:

أليس من المناسب أن نتحدث عن أسرار عبادتنا؟!؛ علَّ الله أن يفتح بِذِكْرِهَا قلوبًا، ثم إنها استجابة لآي القرآن الكريم: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11]!

إليك الإجابةَ مفصلة وِفْقَ التحقيق الآتي في فقرتين:

أولًا: الأعمال نوعان: فرائضُ ونوافل:

(أ)- أما الفرائض: فالأولى الجهر بها والإفصاح عنها، كإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فَتُحَدِّثَ جالسيك بأنك صليت صلاة كذا بمسجد كذا، أو أديت زكاة مالك في شهر كذا؛ ذلك أن الشريعة جاءت بفرضها على عموم المكلفين، ولا مزية لأحد الناس فيها على الآخر، اللهم إن كان في البوح بها محاذيرُ؛ كالجهاد في سبيل الله حالة وجوبه؛ لئلا نُطْعَنَ في مقتلٍ إن عُرِفَ المجاهدون في سبيل الله، كالحال في أرضنا فلسطين المحتلة اليوم.

(ب)- وأما النوافل: فإنْ كانت مشتهرة؛ فيستحب الجهر بها؛ كَقِيَامِ اللَّيل في العشر الأُخَر من رمضان، وصوم عرفة وعاشوراء، وكذا السواك ونظائره من السنن، فلو كتمها الناس جميعًا لما وصلت إلينا تشريعات الإسلام، أما عموم النوافل كَقِيَامِ اللَّيل، وصيام النهار، والصدقات الخيرية، فيجتهد صاحبها ألا تخرج من ديوان السرائر قط..

ثانيًا: الناس قسمان: إمام ومأموم:

قال محمد بن جرير الطبري شيخ المفسرين:

(أ) - إذا كان العبد ممن لا يُقتَدَى به، ويخشى كيد شيطانه، فإخفاؤه النوافل أسلم له..

(ب)- أما إنْ كان إمامًا يُسْتَنُّ بعمله، قاهرًا لشيطانه، منقطعًا إلى الله بعمله، فخفاء العمل وظهوره في قاموسه سواء، فلو تَحَدَّثَ هذا عن خاصة نفسه في ديوان العلن؛ فإنه يَحْسُنُ إن شاء الله تعالى.

وأنموذج هؤلاء: عمرُ وعثمانُ م، كانا يتهجدان، ثم يتذاكران محاسن أعمالهم، وعلى دربهم سفيان الذي غضب لما قال عنه أهل مكة: إنه قليل الطواف، فلما عوتب في غضبه قال: إني لأكره أن يقول الناس: إن سفيان زاهدٌ في الخير، فلو رأيتموني وأنا أدنو من الطائفين بالبيت، ويصيبني من غبارهم كذا وكذا! [ذكر الأثر الإمام البيهقي في شعب الإيمان (5/377)].

والله تعالى أعلم،،،

2- أعمال السِرِّ في رابعة النهار:

ثلاثةٌ من أعمال البِرِّ لا تخرج عن عمل السر، وإن أُدِّيَت في الجهر، سجود التلاوة في حضرة الناس، والصائم إن دُعِيَ لطعام فقال: إني صائم، والعابد في أهله..

الأولى: سجود التلاوة: فإن القارئ مأمور به كلما مَرَّ بسجدة، ولو كان بحضرة غيره، وهل يليق ترك أمر الربِّ لأجل العبد، فترك المأمور لأجل الناس شركٌ، كما أن فعل المأمور لأجلهم رياء.

الثانية: إظهار الصوم لمن دعاه لطعامه؛ للنجاة من حَزَنِ أخيه، وتشويش خاطره، أو يجد في صدره شيئًا، أما لو حصل اليقين بخلاف ذلك فإخفاء العبادة أولى..

الثالثة: العبادة بحضرة الأهل: لئلا تفتر همته عن العبادة والعمل، فضلًا عَمَّا في إخفائها من الحرج والمشقة ما الله به عليم، ولا ريبَ في أفضلية الخلوة الكاملة، خاصة في حقِّ من لا يجد بُغيته إلا فيها! العبدري / المدخل (2/116).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين