دون سابق علم أو إصرار أو ترصد

نشأت نشأة أشعرية صوفية دون سابق علم أو إصرار أو ترصد ،ولا أقول هذا لأنني عدلت عن ذلك ، ولكن لأمور أريد أن أبينها هنا ، فتمهل علي أخي القارئ ! أكرمك الله ،أجل أقول " دون علم " لأننا أخذنا عن شيوخنا دروس العقيدة على أنها عقيدة أهل السنة والجماعة ،وكنا ومانزال نرى فيها تعانق العقل والنص ،أو عدم التعارض بين العقل والنقل كما يقول ابن تيمية- رحمه الله- أو الاتصال بين الحكمة والشريعة كما يقول ابن رشد- رحمه الله- وقد عرفنا الصوفية على أنها تخلية وتحلية ، وذكر ، واستغفار وتحقيق للتوحيد لنبلغ به منزلة التذوق لحقائقه ، وتخلق بالأخلاق السنية ،وذكر ، واستغفار ، ومحاسبة للنفس أشد المحاسبة لتظل على الصراط ، والسلوك الرباني ، وهيللة وحمدلة ، وحسبلة وحوقلة ، واستظلال بظلال الباقيات الصالحات ، وارتضاع لأنوار التقرب من أثداء المتابعة البصيرة للحبيب- عليه الصلاة والسلام- مع قراءة يومية لجزء من القرآن الكريم ،وحزب الإمام النووي ،وهذا كله مع حضور القلب مع كل عبادة ،ودوام المراقبة مع ضبط السلوك ،مع المداومة على مجلس أسبوعي للصلاة على الحبيب محمد- عليه الصلاة والسلام- كنا نردد فيه بعض القصائد في المناجاة والمديح ،هذا كل ماعرفناه وأخذناه عن شيوخنا الأشاعرة الصوفية ،وماكنا نعلم أننا أشاعرة ولا صوفية ،إلا أننا عندما كبرنا عرفنا أننا متهمون بتهم كبيرة- وهذا ماجعلني أقول " دون سابق علم أو إصرار أو ترصد" فالبعض يتهمنا بأننا قد هجرنا القرآن والسنة في عقيدتنا ، ولم نرجع إليهما فيها ،وأننا أصحاب بدع في الذكر والدعاء ،وأننا قبوريون ، لأننا قد نزور قبرا لرجل نعتقد فيه الصلاح تبركا دون اعتقاد بقدرة هذا الرجل على خير أو شر ، وتتسع دائرة الاتهام حتى أننا بتنا سببا في كل بلاء حل بالأمة الإسلامية ،وذلك عندما قال مشايخنا أن الإيمان اعتقاد في القلب وإقرار باللسان ،وأن الأعمال تزيد الإيمان وتنقصه ، ولكن المعاصي لا تلغي جنس الإيمان ،مع أنها قد تورد صاحبها جهنم إن لم يبادر للتوبة ،ففهم من ذلك البعض أننا بهذا سبب في انتشار الحانات والمراقص!! ،وتحكيم غير شريعة الله في حياة الناس ،لما أمن الناس على إيمانهم مع ارتكاب الآثام ،وكأن أصحاب الحانات والمراقص كانوا قد أخذوا الفتوى من مشايخنا عندما فتحوها ،وكأن الحكام عندما عدلوا عن الشريعة إلى القوانين الوضعية كانوا قد استأذنوا المشايخ فأذنوا لهم ، وطمأنوهم على إيمانهم.

شاء الله- عزوجل- أن يكون هناك أشاعرة ، ومن يسمون بالسلفية ،وقد أخذنا عن مشايخنا احترام كل علماء المسلمين من الفريقين ، وإجلالهم ،وأخذ الحكمة على أي لسان جاءت ،ولكن إخواننا السلفية يلاحقون أنفاسنا ، ويطلقون الأحكام بتبديعنا ، وأحيانا بتكفيرنا ،حتى قال قائلهم لرجل عامي وقدضاقت به الحيل فقال وهو يستجير بالله:(مافي غيره )، وتقديرها ، لا يوجد غير الله يخرجني مما أنا فيه ،أي : ما لي سواك يا رب!فقال له :كفرت !!! لأنك تؤمن بوحدة الوجود ،وصاحبنا لا يعرف ماذا تعني هذه الكلمة ، ولم تخطر له على بال ، لأنه لا يعرفها أصلا .
قلنا لهم : أركان الإسلام خمس ، ليس منها التوسل ،فإن أردتم ألا تتوسلوا وتسألوا الله عزوجل بحبيبه- صلى الله عليه وسلم- ماضركم هذا ،وقلنا لهم إن أركان الإيمان ست ، ليس منها تصديق كل ماجاء على لسان الألباني- رحمه الله- فقالوا لنا : التوسل شرك ، والإيمان بما قال الألباني ركن ، فلم نتفق ، وتحول الأمر إلى مماحكة ومناكفة أكثر من رغبة في التواصل والتفاهم ، والوصول إلى كلمة سواء!! .
وقلنا لهم : إننا عندما نحتفل بمولد النبي- عليه الصلاة والسلام- فإننا لا نتعبد بهذا ، ولا نضيف إلى شرع الله منسكا حتى تتهمونا بالبدعة ،إنما هو احتفال ،يذكر ويبشر ، ويصلي فيه الناس على الحبيب محمد- صلى الله عليه وسلم- وعدم الاحتفال بالمولد لا ينقص من تقواكم ولا إيمانكم ،فأصروا أننا أصحاب بدعة ، وإن لم نتب منها- قبل الموت- أوردتنا المهالك .
وقلنا لهم : إن الله ليس كمثله شيء ،فقالوا :بل له- سبحانه- يد ورجل ووجه ،وهو ينزل ويفرح ويغضب ،قلنا فتلك من المتشابهات التي يلزم فيها التأويل ، أو التفويض ،فقالوا : أنتم تعطلون القرآن والسنة ، فسكتنا ونحن نردد :ليس كمثله شيء ،ليس كمثله شيء.
وقلنا لهم : إننا ملتزمون بالمذاهب الفقهية ،والالتزام بها يحسم الفوضى الدينية ، حيث يكثر المفتون ممن لم يؤهلوا ، وتضج الحياة بأحكام ليس لها سند من علم صحيح ، وقد قالوا قديما " إذا أسندت الفتوى للجزارين كثرت الذبائح !!" ولأننا لا نؤمن بإعادة تمهيد الطرق الممهدة ،ولا نميل إلى إعادة
 تعبيد الطرق المعبدة ،وليس لكل منا الطاقة على الإحاطة بكل النصوص ،ومعرفة الراجح والمرجوح منها ،دون تعصب أو تضييق ،أما ماجد في ساح الحياة مما يتصف بالجدة الطارئة ، فله من علماء اليوم من يعمل فيه أدواته الأصولية ، ليقرر حكمه ويبين حلاله من حرامه ،، أو إن كان أكبر من قدرة فقيه واحد فله المجامع الفقهية المعاصرة ، ودورها اليوم بارز مشهود ، فقالوا إننا نريد تعطيل القرآن والسنة ،وأننا نفضل كتب الفقه وأحكامه على كتب الحديث ،فقلنا لا حول ولا قوة إلا بالله ،وهل اعتمد أصحاب المذاهب إلا على القرآن والحديث ! وهل دعونا الناس- مرة- إلى هجر القرآن والحديث ونحن ومشايخنا نتلقى القرآن والحديث جيلا عن جيل ، ونحرص على أن نجاز فيه .
ثم شاء الله أن يوجد من الفريقين من يعتبر أن أقصى غاياته في الحياة ،وأن خير مايلقى به وجه الله أن يقيم الدنيا ولا يقعدها على رأس الفريق الآخر ،وأن حرب الفريق الآخر خير وأبقى من أن يحارب الملاحدة والمنافقين ، ويتصدى لشرورهم القاتلة !! ،وقد صنف في ذلك الكتب والمجلدات ،وتسلل الخلاف إلى القلوب والأهواء ،ودخل في دائرة ردود الأفعال الجهنمية ،حتى صار بعضهم لا يطيق النظر في وجه بعضهم الآخر من الفريق الآخر.
رحم الله أبا الحسن الندوي الذي جمع في رجال الفكر والدعوة في الإسلام بين الغزالي وجلال الدين الرومي وابن تيمية والسرهندي ،فأين نحن من هذه الآفاقية في النظر إلى تاريخ الفكر الإسلامي ، وفي تقييم الرجال والأعمال .
ثم دخلت المعركة الدائرة بين الفريقين ميدان السياسة ، لتزيد الطين بلة ،وراح بعض من كل فريق يستقوي بالحاكم الظالم على الفريق الآخر ،قلنا بأعلى صوت : ماهكذا التقوى ، ولا الاخلاص ، ولا الصلاح ،أهكذا هو المسلم يفتئت على أخيه المسلم ، ويضع يده نكاية به بيد الشيطان رغبة في النيل منه .
ثم عدت إلى نفسي ،فقد خطر خاطر في البال أخشى والله أن يكون صوابا ،فمع عقيدتي الأشعرية والتزامي المذهبي الفقهي ،وفهمي الصوفي البسيط ، أو لأقل الإحساني ،بدأت أرى أن كثيرين من الأشاعرة والصوفية كانوا ومازالوا يميلون إلى أن يكونوا من " وعاظ السلاطين " حتى وإن كان هؤلاء السلاطين من المجرمين الفاجرين ، وقد أخذوا عن الأشعري توفيقه بين الأدلة وبين العقل والنقل ليقلبوه تلفيقا ينزلون به النصوص في غير مواقعها ،ولعلهم قد أخذوا عن الصوفية محبة الشيخ والحفاوة به كمذكر بالله- عزوجل- كما يقول الحسن البصري فقلبوها زعامات روحية هي كالمتاجر، تدر الأرباح المادية والمعنوية على أصحابها ،وما على المريد إلا السمع والطاعة ،وإلا فقل لي لماذا يسجن ابن تيمية- رحمه الله- في مسألة فقهية تتعلق بالطلاق ،ولماذا يستدعى الشيخ بدر الدين الحسني إلى الوالي بتهمة قراءة كتب الحديث ومناقشة أدلة الفقه فيما عرف بقضية المجتهدين ،هو والشيخ جمال الدين القاسمي ،وغيرهما ، ومن يناقش أدلة الأحكام إن لم يكن الشيخ المحدث بدر الدين الحسني رحمه الله!!.
أقول- وبالله التوفيق- : ونحن في ربيع عربي يتفتح يوما بعد يوم عن شقائق النعمان التي تروى بدم الشهداء ، إلى أخوتي ومشايخي من الأشاعرة والصوفية ،لا تخذلوا الثوار هبوطا في الهمة ،أو حفاظا على زعامة ،أو تأليفا لحاكم ابتغاء مصلحة ،ولا تلفقوا الأدلة وتعبثوا بالنصوص ،فذلك كتمان للحق الذي حذر منه القرآن الكريم أهل الكتاب ومن جاء بعدهم ،واذكروا إن شئتم العز بن عبد السلام كيف وقف وقفة سجلها له التاريخ متألقة تألق العزيمة الماضية مضي الزمن في اختراقه فضاء الوجود !!واذكروا كذلك عبد القادر الجزائري ، وعبد القادر الجيلاني من قبله ، كيف كانا في منتهى الصوفية الحقة ، ومع ذلك كانا مجاهدين ، لا يخشيان في الله لومة لائم ،تلك نصيحة من أشعري سالك إلى الله لإخوانه وشيوخه ولا أزكي نفسي إنما هي كلمة حق لا بد أن تقال في وقتها.
أبو عبيدة

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين