دوماً يمكننا أن نصنع شيئاً آخر

 

كتب لي يقول : ( لم أعد أطيق الحياة ، يجب أن أنسحب ! )

كنت أستمع إلى أغنية عذبة عندما وصلتني كلماته من الطرف الآخر من العالم ، توقفت قليلا عند هذه المصادفة الغريبة، إذ كان المغني يردد موقف صاحبي ، وكأنه يعيش المأساة نفسها !

يقول هذا المغني العاشق ـ باللهجة المصرية ـ بعد أن طاف الدنيا باحثاً عن قطرة سعادة :

( حاولت كتير أغني للفرح والحنينْ

وأبعد عنك يا قلبي كل حزن السنينْ

وتعبت معاك كثير كان نفسي آخدك وطيرْ

كان نفسي ف يوم يا قلبي تعيش زيّ الأميرْ )

الأزمة نفسها التي عاشها صاحبي عاشها هذا العاشق المتعب الذي انطلق يبحث عن مكان في هذا العالم يجد فيه بعض السلوى . بعض الفرح . بعض الحب .. لكن دون جدوى ! فقد كتبت عليه الأيام شيئا آخر . ومنعت عنه كل الأحلام الوردية التي تمناها قلبه ..

يتابع مطربنا وصوته يقطر أسى :

( لكن غنوة زمانك 

اللي تخلقت عشانك 

غنوة وموّال حزين 

وتروح م الوعد فين ؟! )

وتروحوم الوعد فين ؟! يسائل نفسه بحرقة ويأس، فأين يذهب في هذا العالم وقد اختارت له الأقدار أغنية حزينة عليه أن يرددها حتى آخر لحظة من حياته ؟

يبتعد وهو يردد باحتراق :

( وتروح م الوعد فين ؟!

وتروح م الوعد فين ؟! )

وكأنما هو ينادي قلبه المشوق إلى الانطلاق أنْ توقف أيها القلب . توقف ... وارضى بالمكتوب الذي يحاصرك من كل مكان!

ثم في انكسار يشد العاشق على قلبه ويهمس : 

( د انت كل الحكاية قلب بين القلوب 

عمرك أبداً ما تقدر تغير المكتوب ! )

وإذ يدرك العاشق هذه الحقيقة الكونية يدرك أنه غارق في المأساة حتى قمة رأسه ، وأن لا أمل له بالنجاة ، فهو واحد من البشر يسري عليه ما يسري عليهم . فالكل محاصرون بأقدارهم التي لا يستطيعون الفكاك منها !!!

 

كتبت إلى صديقي :

أجل أيها العزيز .. كلنا محاصرون ، ولا أحد منا يستطيع أن يغير شيئاً من المكتوب ، لا أحد يمكنه أن يعيش خارج الزمان أو المكان اللذين كتبا له في " اللوح المحفوظ " وما علينا إلا أن نقتحم هذا الاختبار الصعب بكل ما أوتينا من شجاعة .. وإلا .. وإلا ماذا ؟ أحسب أنك تعرف الجواب جيداً .. فهذه الدنيا خطوات كتبت علينا ولابد أن نمشيها شئنا ذلك أم أبينا .. علينا أيها العزيز أن نتابع السير دون توقف . دون ملل . دون يأس . على الرغم من شوك الطريق وقسوة الاختبار .. والخاسر هو من اختار الانسحاب قبل انتهاء الوقت المقرر له .. 

ومن عجيب أمر هذه الحياة أيها العزيز أن التحدي الذي تواجهنا الحياة به هو الذي يجملها في عيوننا ويغرينا أن نسعى وراءها أكثر فأكثر لعلنا نصل إلى ما هو أبعد . ونحقق ما هو مستحيل . ولابد أنك عشت بعض تلك اللحظات المباركة حين حققت في حياتك أملاً عزيزاً كان يبدو لك مستحيلاً .. أليس كذلك ؟ 

وهذا هو أجمل ما في الحياة .. أجمل ما فيها هو هذا الدلال ، وذلك التمنع .. فهي تارة تعطيك كالبحر فتصعد بك إلى القمة حتى تحسب أنك ( سلطان زمانك ) وهي تارة أخرى تتمنع عليك فتهوى بك إلى القاع فتحس أنك أقل شأنا من...!!؟

وهكذا يمضي بك قارب الحياة ما بين صعود وهبوط ، فتسعدك حيناً فترى حقيقة لا وهماً أن الصخر يضحك ويشاركك سعادتك ، وتحزنك حيناً آخر فترى وجوه أحبابك وقد أمست غريبة عنك كأنك لم تعرفهم يوماً ولم يعرفوك !

أنت أيها العزيز ..

ما بين الحزن والفرح كالنحلة بين الزهرة والشوك ، فهي مرة ترشف من الرحيق حتى الثمالة ، ومرة يدميها الشوك فتعود إلى بيتها مكسورة الخاطر تجر أذيال الخيبة .. لاشك أيها العزيز أن النحلة تمل رحلة العذاب اليومية هذه ، وربما تمنت في كثير من اللحظات لو أنها لم تخلق لهذا المشوار المحفوف بالمخاطر والتعب ، لكنها عندما تعود إلى خليتها عند الأصيل ، وتلمح ابتسامة ما ، على ثغر ما ، فإنها تنسى آلامها وتنغمس مع الآخرين بفرح غامر يدفعها أن تنادي من أعماقها : هل من مزيد ؟

أجل يا صديقي( هل من مزيد ؟ ) في أعماق كل منا يضج هذا النداء الفطري الرائع ، فإن كل واحد منا يتمنى أن يستزيد من نبع الحياة على الرغم مما فيه من كدر وتعب وأحزان ، لأن في أعماق كل منا عطشاً ما ، قد يكون عطشاً للحب ، وقد يكون عطشاً للمجد ، وقد يكون عطشاً للجاه والسلطان ، وقد يكون .. وقد يكون ..

المهم .. أننا في النهاية عطاشى بصورة ما ، وحين تعرف أيها العزيز أي نوع من العطش هو عطشك ، وتعرف كيف ترويه ، تكون قد أدركت السعادة الحقيقية ، وحينئذ ترقص الدنيا من حولك فتفرح بها وتفرح بك، على الرغم من أنك (عمرك أبداً ما تقدر تغير المكتوب) وهذا من أعجب أسرار الحياة ، فعلى الرغم من أنك لا تستطيع أن تغير المكتوب فإنك تستطيع أن تصنع شيئاً آخر ، وأن تجير حساب هذا المكتوب لصالحك ، وأن تجعل الدنيا تستجدي عطفك وحنانك بدل أن تركع أنت تحت قدميها متوسلاً أن تمن عليك بنظرة من عينيها الساحرتين ، وهنا تكمن الصعوبة والخطورة في تعاملنا مع هذه المعشوقة المترفعة الشرسة .. إذ كيف نستطيع أن نجعلها تخضع لنا بالرغم من إحساسنا العميق بالحاجة إليها ؟!! كيف نستطيع أن نجعلها تسعى وراءنا وتتبعنا إلى حيث نريد بدل أننسعى نحن وراءها إلى حيث تريد ؟!! كيف نجعلها ترشقنا بأزهارها، بدلاً من إلقاء الشوك في طريقنا ؟!

- هل تستطيع ذلك أيها العزيز ؟

دون تردد ينبغي أن يكون جوابك : أجل . لأن منطق الحياة لا يقبل المترددين ، والعمر نفحة عطر إذا لم تشمها في الوقت المناسب تبددت على شفاه السنين ..

يجب يا صديقي أن يكون الجواب جاهزاً على شفتيك ، وأن يكون قرارك قاطعاً مثل حد السيف ، وإلا أدمت الحياة أصابعك ، وجُرح الحياة يا صديقي .. آه .. جرح الحياة لا يندمل أبداً .. فحاذر أن تجرحك !

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين