زعموا أن بريطانيا العظمى لم تفارق الشمس فيها كبد السماء لتحتجب، كذبوا فيما زعموا، بل وآل الأمر إلى أن تمضي أيام وأيام ولا تطلع فيها الشمس، وكلك الإمبراطوريات المغولية، والعثمانية، والعباسية، والأموية، والرومية، والفارسية، وقبلها دول فراعنة مصر، وثمود، وعاد، وقوم نوح، حكمت أجزاء معلومة من الأرض، وحصصا مسماة من الزمان، تشرق فيها الشمس وتغيب، ثم اندثرت تلك الإمبراطوريات والدول، ولم تبق لها عين ولا أثر.
وأستثني من قصة الأفول دولة واحدة طلعت شمسها منذ أن أنشئت واعتلَت رابعة النهار، ثم لم يلحقها زوال ولا دلوك، ولا اختفاء ولا غروب، بل السطوع لازم لها ملصقا بها حتى تكور الشمس نفسها تكويرا.
ما هذه الدولة الجارفة الماردة؟ إنها دولة الهوى، وما أدراك ما الهوى؟ أمه النفس تحضنه وترعاه، وأبوه الشيطان يعلِّمه ويتولاه، إن هذه الدولة استبدت بالأفراد والمجتمعات، وأملت إرادتها على الدول والإمبراطوريات، وبسطت نفوذها في الفقراء والأغنياء، وفرضت هيمنتها على الضعفاء والأقوياء، وقهرت العبيد والأحرار، واستحوذت على السود والبيض، ولم ينج منها إلا أقل قليل.
وإذا تغلب الهوى على الإنسان غاب عنه عقله ورشده، وصار زمامه بيد الطاغوت يسوقه حيث يشاء، وإن تملص الإنسان من عقله وتفلته من النظر والفكر ليس بجريمة عادية، بل هي أكبر الكبائر وأقبح القبائح، وعقوبتها أشد العقوبات، قال تعالى: "ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب".
ولا أعجب من تملك الهوى الفراعنة والنماردة منقادين له أذلة صاغرين مثل ما أعجب من تحكمه في العلماء الذين أوتوا علما فانسلخوا منه، مقتحمة بهم دواعي نفوسهم دواهي وملمات، قال تعالى ناعيا عليهم: "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون".
فيقوم بعض هؤلاء العلماء في الغرب ويدعي أن لا رب ولا إله، ينتفع بالخلق ويكفر بالخالق، وينعم بالنعم وينكر المنعم، ويثني على بديع صنع الكون، ويكذب بالمبدع، ويمجد حسن نظام العالم ويسخر من مدبره، ويتفاخر بأن الدول الغربية أرقى الدول، ودليله على دعواه حسن نظامها وتطورها، فيا لهذا التناقض المشين، يؤمن بالظاهر ويكفر بالذي هو أظهر منه، والذي هو موجد كل ظاهر وكل باطن، ومدبر كل حركة وسكون، ومقدر كل خير وشر.
ويقوم آخر فيتغاضى عن عامة تعاليم القرآن التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ودلائله التي تبهر العقول وتدهش الألباب، ويتخذ إلى الطعن في الكتاب العزيز سبيلا بحيلة أنه يجعل الإنسان عبدا فيسلبه حريته واستقلاله، ويأمر بقسمة المواريث، ويستحث على الإنفاق، ويحرم الربا، فيجعل الثروة مشتتة، ويعرقل النمو الاقتصادي، ويحل النكاح ويحظر ما عداه فيحول بين الناس وبين متعهم، وبلغ من سخافة هذا العالم أن لا يجد مطعنا في النظم التي تفرض عبودية الإنسان للإنسان، وتحسِّن إضاعة المال في القمار والاستغلال، وتشجع تقطيع نظام الأسرة إربا إربا، يا ليته درى أن فكاهاته مغبتها ملال وقلى، وأن لذائذه سريعة البلى.
ويقوم ثالث فيتعامى عن حياة محمد (صلى الله عليه وسلم) النزيهة الطاهرة العفيفة، وكمال عبوديته، وعظم خلقه، وحسن معاشرته، وبلوغه الذروة في الصدق والأمانة، ويسيء إلى جنابه الشريف معرِّضًا بزواجه من أكثر من امرأة، وقتله بني قريظة، ويتغافل أن يطعن في المجتمع الذي تضاجع الفتاة فيه أكثر من خمسة وثلاين رجلا قبل أن تتزوج، وتبقى مخالَّتُها الرجال والنساء بعد الزواج، والذي يقضي فيه الرجل شهوته ممن رغب من النساء غير متحمل مسؤولية، والذي قد فشا فيه زنا المحارم فشوا كبيرا، وأمست المرأة فيها شرا من سلعة تعرض للبيع، وينسى الدول التي أسست على التقتيل والاغتيال، والتشريد والاغتيال، بل ويتغنى بتمجيدها وتحميدها ليل نهار.
يا أيها الإنسان! ما غرك بربك الكريم، خلقك فهداك، فخالِفْ هواك، وحكِّمْ عقلك الذي أعطاك، فسوف تحمل على آلة حدباء، مخلِّفا أعوانك وأنصارك وراء، وسوف تسلب ثياب المخيلة يا مخلوقا من طين وماء، ثم تقوم لرب العالمين، في يوم ذي بأس شديد، وحساب عسير غير يسير، ولن ينجو من عذابه إلا من جاءه بقلب سليم.
جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول