دولة الموحدين  (524 - 668 هـ/ 1120 - 1270 م)

     قامت دولة الموحدين في بلاد المغرب الأقصى، على أفكار دعوة: محمد بن تومرت، المخالفة لعقائد أهل السنة والجماعة، بعد أن قضى حمَلتُها على دولة المرابطين السنية، وقد توسعت دولتهم حتى شملت: بلاد المغرب كلها، ثم الأندلس، وذلك بعد معركة الأراك، عام: (591 ه)، وكان الموحدون يرون عاصمتهم مراكش دار الخلافة الشرعية؛ لذا لم يعترفوا بالخلافة العباسية في بغداد، ومرت دولة الموحدين بأطوار مختلفة في حملها لأفكار مؤسسها: ابن تومرت، فبينما غالى بعض أمرائها في حمل أفكاره، وتطبيقها والدعوة إليها؛ عمل الأمير: أبو يوسف، يعقوب المنصور على إصلاح تلك العقائد والأفكار، والاقتراب بالموحدين من منهج أهل السنة والجماعة، وقد مرت دولة الموحدين؛ كغيرها من الدول، بمراحل قوة وضعف، ثم زالت على أيدي بني مرين، عام: (668 ه)، الذين أقاموا دولتهم على أنقاضها.

محمد بن تومرت (473 - 524 ه)

     ولد محمد بن تومرت في قرية (إيجلي) في بلاد السوس، جنوب المغرب الأقصى، واختلف المؤرخون في تاريخ ولادته، ويرجح أن يكون ولد عام: (473 ه) [اختلف في تاريخ ميلاده، فرجح عبد المجيد النجار أنه ولد عام: (473 ه)، ينظر: الصلابي، دولتي المرابطين والموحدين، مصدر سابق، ص: 254، وذكر إبراهيم حركات أنه ولد عام: (485 ه) ينظر: حركات، المغرب عبر التاريخ، مصدر سابق، ص: 1/246]، كما اختلف في نسبه أيضًا، فقيل: إنه عربي، يرجع نسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ادعى ابن تومرت ذلك لنفسه، وقيل: إنَّ نسبه بربريٌّ صرفٌ، وقد أثبت له ابن خلدون النسب النبوي، ونفاه عنه غيره.

     تلقى دراسته الأولية في الكتاتيب طفلًا، فحفظ القرآن الكريم، وتعلم القراءة والكتابة، وعلوم العربية والفقه، ثم رحل إلى المشرق عام: (500 ه)؛ يطلب العلم، فجلس في تونس على الشيخ: أبي عبد الله المازري (ت: 536 ه)، وفي مصر على الشيخ: أبي بكر الطرطوشي (ت: 521 ه) ثم ذهب إلى الحجاز؛ فحج بيت الله الحرام، ومنه سافر إلى بغداد، ومكث فيها بضع سنين، وهناك تبحر في علم الأصول والكلام، وعقائد الاعتزال والأشاعرة، وأخذ من كلٍّ ما يخدم أفكاره وطموحاته، ويحقق أهدافه المستقبلية، ومن أبرز من جلس عليهم في بغداد، وتأثر بهم: الإمام الغزالي (ت: 505 ه)، والكيا الهراسي (ت: 504 ه)، وغيرهم.

     تمكن ابن تومرت في رحلته المشرقية هذه؛ من الاطلاع على أحوال العالم الإسلامي، ومعرفة أسباب الانهيار والتدهور التي تعانيه دويلات بلاد المغرب، خاصَّة المرابطين منها؛ فدفعه ذلك إلى الطموح في القضاء عليها، والعمل لإقامة دولة، لا في بلاد المغرب فقط، بل في العالم الإسلامي كله؛ من كل هذا الخليط الفكري بنى محمد بن تومرت شخصيته، فجمع فيها بين رجل الدين، والعلم والسياسة، فهو في تدينه وتقشفه صوفيٌّ، وفي علمه بحرٌ متلاطم الأمواج، وفي خططه وسياسته فريدُ عصره، فقد خطط لقيام دولة الموحدين، ومهَّد لها، واضعًا أسسها وأفكارها التي قامت عليها.

     وفي عام: (510 ه) قفل ابن تومرت عائدًا إلى بلاد المغرب، واستمرت رحلة عودته أربع سنين، كان يمرُّ خلالها بالمدن والقرى الإسلامية ينشر علمه، وأفكاره فيها، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، بأسلوب قاسٍ شديد، جرَّ عليه كثيرًا من الويلات؛ ولـما وصل مدينة ملالة الجزائرية؛ لقي عبدَ المؤمن بن علي (ت: 558 ه)، حيث كان الأخير متَّجهًا إلى المشرق لطلب العلم؛ فصرفه ابن تومرت عن ذلك، بعد أن لمح فيه علامات الذكاء والفطنة، ورأى أنه الرجل الموصوف في كتاب الجفر [كتاب الجفر: يعتقد الإمامية أن جعفر الصادق كتبه لهم، فيه كل ما يحتاجونه، وما هو كائن إلى يوم القيامة، ينظر: المصدر السابق، ص: 265، وإن صحت هذه الحادثة عن ابن تومرت؛ فربما دل هذا على أنه تأثر في رحلته المشرقية بالرافضة الإمامية، ويؤكد هذا الظن؛ ادعاؤه المهدية والعصمة لنفسه، لكن الأستاذ: عبد المجيد النجار نفى ذلك عنه؛ عند تعليقه على ادعاء ابن تومرت المهدية، وذكر من الفوارق بين مهدية ابن تومرت، وعقيدة الرافضة في المهدي؛ أن ابن تومرت يؤمن أن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر، ثم عمر، ثم علي، ثم عثمان، كما أن مهديته تخلو من القول بالغيبة والرجعة، التي يؤمن بها الرافضة، والعصمة التي ادعاها ابن تومرت لنفسه تخالف أيضاً العصمة عند الرافضة، ينظر: النجار، تجربة الإصلاح في حركة المهدي ابن تومرت، عبد المجيد النجار، (واشنطن: طبعة المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط 2، ت:1995 م) ص: 129]- الذي يحمله ابن تومرت معه- ويكون النصر على يديه؛ فأخبره بما ينوي القيام به؛ فبايعه عبد المؤمن على السمع والطاعة، وأخذا يعملان سويًا لتقويض دولة المرابطين.

     كان ممن انضم لدعوة ابن تومرت أيضًا: عبد الله الونشريسي، الذي كان على درجة عالية من العلم والثقافة؛ فاتفق معه ابن تومرت على أن يخفي علمه عن الناس، ويتظاهر بالجهل والعجز؛ حتى يظهره في الوقت المناسب؛ فيكون بذلك آية من آيات صدق ابن تومرت في دعوته، فقام الونشريسي بذلك، وأتقن فنَّ الخداع والمكر، إلى أن أظهر علمه للناس دفعةً واحدة، وذلك بعد ادِّعاء ابن تومرت المهدية.

     استمر ابن تومرت يتنقل في المدن والقرى ينشر دعوته، ويكوِّن خلايا سرية تحمل أفكاره ومبادئه، ويستقطب لذلك الأشخاص ذوي القوة الجسمانية من قليلي التجربة؛ إلى أن وصل به الحال إلى مراكش مقر المرابطين، وهناك أخذ ينبه تلميذه عبد المؤمن إلى المواقع الاستراتيجية فيها؛ مشعراً إياه بأن حربه ضد المرابطين ستكون طويلة الأمد، ثم خرج مع تلاميذه إلى السوق يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويطعن بأمير المؤمنين؛ مستغلًا شيوع المفاسد في مراكش، حتى شاع أمره فيها؛ فاستدعاه أمير المؤمنين:علي بن يوسف بن تاشفين، وسأله عن حقيقة حاله، فأظهر له ابن تومرت الزهد والتواضع، وأنه ليس بطالب دنيا؛ فرق له الأمير؛ لكنه بقي شاكَّاً في حاله؛ فاستدعى علماء مراكش وفقهاءها لمناظرته، ومعرفة حقيقة أمره.

     لقد كان أسمى ما يطمح إليه ابن تومرت في هذه المرحلة من دعوته؛ أن يحظى بمناظرة علماء دولة المرابطين وفقهائها؛ ليظهر عجزَهم أمام سطوع حجته وفصاحته، وجهلَهم بما عنده من العلم الذي تعلمه في رحلته المشرقية، ولا سيما علما الأصول والجدل، وتمَّت المناظرة بينه وبينهم في مجلس أمير المؤمنين، واستطاع ابن تومرت أن يسخِّر كلَّ كلمة فيها لتصوير الفساد الذي ترتع فيه دولة المرابطين، من بيع الخمور، وانتشار الخنازير في شوارعها، وغيرها من المفاسد، وأن الذي يتحمل ذلك هم حاشية الأمير وخواصُّه، الذين يخفون عنه ذلك.

     ولـمَّا كشف ابن تومرت سوء أوضاع البلاد؛ أراد أن يثبت عجز العلماء عن مجاراته في العلم؛ فطرح عليهم من الأسئلة ما أعيتهم إجابتها، منهيًا بذلك المناظرة لصالحه، ولقد تنبه لخطره الفقيه: مالك بن وهب الأندلسي (ت:525 ه)، وعرف أنه طالب سلطان ودنيا؛ فأشار على الأمير بقتله، لكن رأيه لم يحضَ بقَبول الأمير، ولا برضاه.[ينظر: الصلابي، دولتي المرابطين والموحدين، مصدر سابق، ص: 268] .

     أراد ابن تومرت بعد هذه المناظرة التي شهرته في مراكش وغيرها؛ أن ينتقل من الجانب التنظيري في دعوته، إلى الجانب العملي، فاتخذ من المقبرة مقرًا له، وبنى فيها خيمته؛ ليثبت للناس أنه ليس بطالب دنيا وسلطان، بل طالب آخرة، كما أن المقبرة توفِّرُ له مكانًا هادئًا، بعيدًا عن أعين الناس، يتيح له نشر أفكاره فيه كيف شاء؛ فتوافد إليه الطلاب، فأخذ يكوِّن منهم قاعدة شعبية، حملت أفكاره، ونصرت دعوته، واتخذ من رفع شعار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإظهار الصلاح والتقوى؛ وسيلةً لذلك، ولذا كثر أتباعه ممن انطوت عليهم أساليبه، في المكر والخداع، ولقد ذكر تلميذه البيذق (ت: 1164 م): أن ابن تومرت كان لا يتورع عن الكذب في أمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر؛ وإذا خشي مكروهًا من جراء ذلك؛ خلط في كلامه حتى ينسب للجنون.

     وبعد أن تمكَّن ابن تومرت من بناء قاعدة شعبية، غاية في التلاحم والترابط، وألَّف لهم كتابًا في العقيدة، يتضمن الخطوط العريضة لأصول دعوته [ينظر: المصدر السابق، ص: 270/271]؛ انتقل إلى المرحلة الثالثة من مراحل دعوته، فأخذ يظهر رأيه في دولة المرابطين، ويطعن في عقيدتها، واصفًا أنصارها بالتجسيم والكفر والنفاق، وأن قتالهم أوجب من قتال المجوس والنصارى، ولـما وصل إلى هذه المرحلة، من الجهر بأهداف دعوته وغاياتها، وأدرك المخاطر التي تتهدده من المرابطين؛ انتقل إلى بلاد السوس مسقط رأسه؛ محتميًا بقبيلته: مصمودة من خطر المرابطين، معلنًا وأصحابَه خلع مبايعة أمير المرابطين: علي بن يوسف، وفي قبيلته أخذ يكرِّس دعوته في نفوس أتباعه من جديد، ويؤصل فيهم موقفه من دولة المرابطين، حتى استطاع أن يوجد حاجزًا نفسيًا بينهم وبين المرابطين، وهنا أطلق على أتباعه اسم (الموحدين)؛ تعريضًا باسم (المرابطين).

     لـما رأى ابن تومرت قَبول دعوته في أواسط الناس حوله وانتشارها؛ أخذ يرسل تلاميذه إلى القبائل المجاورة له، يدعوهم إلى الانضمام إليه، وقد نجحوا في تشويق الكثير من الناس للرحيل إلى ابن تومرت، فتوافدوا عليه؛ بعد أن رسَّخ طلَّابُه في أذهانهم أن الظلم والفساد الذي ترتع فيه دولة المرابطين لا يزول إلا بالمهدي، وأن الإيمان به واجب، وأن هذا الوقتَ وقتُ ظهوره، وسيفتح المشرق والمغرب، ويملأ الأرض قسطًا وعدلًا، كما ملئت جورًا وظلمًا؛ وهنا جمع ابن تومرت الناس، وقام فيهم خطيبًا، وأعلن فيهم أنه المهدي المنتظر، ودعا الناس إلى بيعته، فبادر إليه العشرة الملازمون له فبايعوه، ثم تتابع عليه البربر مبايعين له على السمع والطاعة في جهاده المرابطين، وذلك عام: (518 ه).

     كان مما يستدل به ابن تومرت على مهديَّته أمور كثيرة، منها: التظاهر بالتقوى والتواضع، والزهد بالدنيا وملذاتها، كما كان يقول لهم: إن الموتى يشهدون بأني المهدي المنتظر، ولقد كان يتواطأ من بعض الناس على ذلك فيدفنهم أحياءً، ويترك لهم مكانًا للتنفس، ويأمرهم أن يكلموه إذا دعاهم، ويشهدوا أنه المهدي، وإذا ما فعلوا ذلك على مسمع من الناس؛ هدم عليهم قبورهم؛ كي لا يفشوا سره بعده، كما سلك غيرها من المسالك لإقناع الناس بأنه المهدي المنتظر، الذي يقتل الدجال، وأنهم الطائفة المنصورة، التي ينزل فيهم عيسى بن مريم.

     بذلك يكون ابن تومرت قد استكمل بناء قواعد دولته المستقبلية، وضمن لنفسه ولاء القبائل وطاعتهم؛ فأخذ ينظمهم بعناية فائقة، ويقسمهم إلى طبقات حتى يتمكن من مراقبتهم والإشراف عليهم، فكانت طبقاتهم: أربعة عشرة طبقة، لكلٍّ منها مهامها الخاصة، وكانت الثلاثة الأولى منها أهم تلك الطبقات، حيث ضمَّت كبار رجال الموحدين، وزعماء القبائل وشيوخها، وكان واجبها الأول؛ معالجة أمور الموحدين، وتسيير دفة الحكم في هذه الدولة الناشئة، وباقي الطبقات كانت تعنى بالأمور العسكرية والعلمية والدينية.

     لقد تمكن ابن تومرت بتقسيماته تلك من الاطلاع على أمور مجتمعه الجديد، صغيرها وكبيرها، مظهراً بذلك ما يتمتع به من ملكة تنظيمية فريدة، سخَّرها لتحقيق مهمته الصعبة، في القضاء على دولة المرابطين، التي وحَّدت المغرب الأقصى مع الأندلس، واشتهر حكامها بالعدل والصلاح.

     بعد أن أعدَّ ابن تومرت أصحابه إعدادًا عقائديًا؛ أخذ يعدهم إعدادًا ماديًا، وينظم صفوفهم لقتال المرابطين، ولقد كان المرابطون يتابعون تحركات ابن تومرت، ويردون على هجماته الدعائية ضدهم [ينظر: المصدر السابق، ص: 294/296]؛ حتى إذا ما استفحل أمره، وعظم خطره، وعزم على مواجهتهم مواجهةً عسكرية؛ أرسل إليه الأمير: علي بن يوسف جيشًا كبيرًا؛ للقضاء عليه، لكن هذا الجيش رجع دون قتال؛ فاستغل ابن تومرت ذلك، وجعلها مِنَّةً من الله على الموحدين.

     استمر بعد ذلك الأمير علي بن يوسف، يرسل الحملات تلو الحملات؛ لاستئصال شأفة الموحدين، لكن تلك الحملات كانت تفشل، وتنهزم أمام ثبات الموحدين وتصديهم لها، بل لقد أصبح الموحدون بعد ذلك يتعقبون تلك الحملات، ويقتلون منها أعدادًا كبيرة، ويغنمون منها غنائم كثيرة، حتى اغتم لذلك أمير المرابطين علي بن يوسف غمًا كبيرًا، ولكي يكون ابن تومرت وعسكره في منعة من مباغتة المرابطين؛ اتخذ من  المدينة الحصينة (تينملل) [تقع جنوب شرق مراكش، على بعد 100 كم] مقرًا له، وهي المدينة التي قال عنها ابن الخطيب: "لا يعلم مدينة أحصن منها"[ ينظر: المصدر السابق، ص: 308].

     ازدادت ثقة ابن تومرت بنفسه كثيرًا بعد تلك الانتصارات؛ فقرر الانتقال من مرحلة الدفاع، إلى مرحلة الهجوم على المرابطين في عاصمتهم مراكش؛ فبادرهم برسالة يعرض فيها عليهم الدخول في طاعته، أو الحرب، وقبل أن يخوض معهم حرب الهجوم؛ أراد أن يطهر جيشه ممن يشك في ولائه له؛ فذكر لهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ في هذه الأمة محدثين، وإنَّ عمر منهم»[ البخاري، برقم: (3689)]، وأوعز إلى صديقه الونشريسي، أن يظهر علمه للناس -وهو الذي كان يتظاهر بينهم بالجهل والبساطة، بل وبالجنون أيضًا- ليكون آيةَ تأييد الله له في حربه المرابطين، وسببًا في قضائه على المترددين في طاعته، الشاكين في مهديَّته.

     أخذ الونشريسي يقرأ القرآن أمامهم بإتقان، ويخبرهم بما ألهمه الله من العلوم والأسرار، وما أطلعه عليه من خفايا النفوس، ومن ذلك أنه أطلعه على أسماء المشككين بالمهدي المعصوم ابن تومرت، وأنه لا بد من قتلهم؛ لأنهم من أهل النار فأخبرهم بها، وكان ابن تومرت قد زوده بأسمائهم من قبل فحفظها الونشريسي عن ظهر قلب [ذكرت سابقًا ما كان ابن تومرت قد أمر به ابن الونشريسي لما التقى به]، فأمر ابن تومرت القبائل بقتل أولئك المشككين به من أبنائهم، ممن ذكرهم الونشريسي، فقتلوا من أبنائهم خلقًا كثيرًا، ووعد ابن تومرت تلك القبائل -تطييبًا لقلوبهم- باغتنام أموال المرابطين وديارهم، ثم بعثهم لقتال المرابطين.

     كان ابن تومرت يريد حسم الصراع العسكري مع المرابطين بالاستيلاء على عاصمتهم مراكش؛ ولا بد له قبل ذلك أن يتجاوز كلَّ الخطوط الدفاعية التي أقامها المرابطون للدفاع عنها؛ فاستنفر القبائل يحشدهم لذلك، فتجمع عنده نحو: (40) ألف مقاتل، جعل على رأسهم الونشريسي، ثم وجههم إلى مراكش، وقبل وصولهم إليها، خاضوا مع المرابطين معارك عدة، كانت كلها لصالحهم.

     ضرب الموحدون الحصار على مراكش مدة أربعين يومًا، ولقي منهم المرابطون خلالها عنتًا شديدًا، وسقط منهم كثير من القتلى، حتى خرج إليهم المرابطون بقيادة الأمير علي بن يوسف، لكن الأمير لم يوفق لهزيمتهم، بل لقد تشتت شمل جيشه، وولى هاربًا؛ فأخذت الغيرة القائد: عبد الله بن همشك، فخرج مع أصحابه الأندلسيين -المحاصرين داخل المدينة- لقتال الموحدين، وفك الحصار عن مراكش، واستطاع هذا القائد أن يهزمهم، ويقتل منهم المئات؛ فارتفعت بذلك معنويات جيش المرابطين، فأرسل الأمير: علي بن يوسف إلى كافة ولاته وقواده؛ للانضمام إليه في قتال الموحدين، فقدموا إليه، ونظَّم منهم جيشًا؛ استطاع أن يهزم الموحدين، ويردهم إلى أوكارهم، وسميت تلك المعركة: (البحيرة)، وذلك عام: (524 ه)، وقد قتل في تلك المعارك قائد جيش الموحدين: الونشريسي، فخلفه عليهم: عبد المؤمن بن علي، الذي أعاد الكرة على مراكش مرةً أخرى ولكنه هزم، وقتل من جيشه الآلاف، فعاد بمن بقي معه إلى وكر ابن تومرت، في تينملل، يجرُّ أذيال الهزيمة[ينظر: الصلابي، دولتي المرابطين والموحدين، مصدر سابق، ص: 311/313].

     نزلت أخبار هذه الهزيمة على ابن تومرت كالصاعقة، وزلزلت ثقة القبائل به، إذ كيف يهزم المهدي المؤيد من السماء، فأعادوا النظر في عقيدة المهدي؛ فلجأ ابن تومرت إلى أساليبه في المكر والخداع؛ ليعيد لهم الثقة بدعوته ومهديته؛ فأخبرهم أن قتلاهم في الجنة، وأنهم ينطقون بذلك في قبورهم، وكان قد اتفق مع جماعة من الناس؛ فدفنهم أحياءً، وجعل لهم متنفسًا، وطلب منهم أن يجيبوه إذا استنطقهم، ثم خرج ليلًا بزعماء الموحدين وشيوخهم إلى تلك القبور، فنادى بهم: يا معشر الشهداء: خبرونا ما لقيتم من الله تعالى، فأجابوه قائلين: وجدنا ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر؛ إضافة إلى ما لقنهم إياه؛ فذهل الناس مما سمعوا، وعادت إليهم ثقتهم بالمهدي، وبعدها أغلق ابن تومرت المنافس على المدفونين؛ فماتوا من فورهم. [ينظر: الهرفي، محمد سلمان، دولة المرابطين في عهد علي بن يوسف بن تاشفين (بيروت: دار الندوة الجديدة، 1405/1985) ص: 122].

     إن ابن تومرت كان يدرك بقرارة نفسه، أن تلك الهزائم التي مني بها جيشه؛ ما هي إلا نذير شؤم للإطاحة بكل مخططاته التي سخَّر حياته لأجلها ليقيم دولته المنشودة؛ فأورثه ذلك المرضَ الذي أودى بحياته، وقبل أن يفارق الحياة؛ استدعى أصحابه المقربين، وحذرهم الفرقة والتناحر، وأمَّر عليه تلميذه الأول: عبد المؤمن بن علي، وتوفي بعدها ابن تومرت، عام: (524 ه)، بعد أن رسَّخ في قلوب أتباعه دعوته وأفكاره فأطاعوه، وقتلوا أبناءهم لأجلها!

     لقد قامت دعوة ابن تومرت على أسسٍ وأفكارٍ تخالف عقيدة أهل السنة ومنهجَهم، ومن ذلك ادعاؤه المهدية لنفسه، بل لقد زاد عليها ادعاءَ العصمة أيضًا، فصار يُطلق عليه المعصوم، موافقًا بذلك الرافضة الاثني عشرية، الذين قالوا بالعصمة لأئمتهم من الذنوب والرذائل والنسيان، واتخذ من ذلك وسيلةً لجمع الناس حوله في قتاله المرابطين، كما رسَّخ في نفوس أتباعه أن المرابطين كفارٌ مجسمة، يصفون الله بصفات البشر، ويشبهونه بهم؛ موظفًا بذلك المدارس الكلامية لخدمة أهدافه السياسية، ولقد اشتط ابن تومرت في انحرافه ذلك، حتى إنَّه قد كفَّر كلَّ من لم يوافقه على رأيه، ولو كان من أتباعه! [ينظر لكل ما سبق: حركات، المغرب عبر التاريخ، 1/246 إلى 255].

     كان ابن تومرت شخصية فريدة في التاريخ، اجتمعت فيه صفات قلما تجتمع في غيره، فقد جمع بين المكر والخداع، واستغلال الفرص، وفصاحة اللسان، وسحر البيان، والتبحر في فنون العلوم، بل والتفرد بإتقان علوم يجهلها علماء بلده، جمع جُلَّ ذلك في رحلته المشرقية، ووظَّفه في حركته التدميرية، التي هدمت أركان دولة المرابطين، ساعده على ذلك؛ سذاجة مجتمعه وجهله، وما عشعش في أذهانه من انحرافات العبيديين وتضليلهم، حتى ابتعد عن منهل الإسلام الصافي [ينظر الهرفي، دولة المرابطين، مصدر سابق، ص: 123]ـ [مع كل ما ذكر عن ابن تومرت؛ إلا أن بعض المؤرخين عدَّ حركته حركة إصلاحية رائدة، ومنهم: الأستاذ عبد المجيد النجار، في كتابه: (تجربة الإصلاح في حركة المهدي ابن تومرت) ونفى عنه ما رمي به من خرافات وتجاوزات، وخطّأه في ادعائه المهدية؛ لكنه رآها مناورة سياسية، اجتهد فيها ابن تومرت؛ ليضمن ولاء الناس، والتفاتهم حوله، ويكفي لدحض عقيدة ابن تومرت، وبيان فساد طويته؛ ردُّ ابن تيمية عليه، ينظر: ابن تيمية، الفتاوى، مصدر سابق، 11/492].

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين