الموجز في التاريخ: دولة المماليك (648 -923هـ / 1250 – 1517م)

أصل المماليك

     المماليك سلالة من الجنود الأتراك والأعاجم، جُندوا في الدولة الإسلامية زمن الأمويين، ثم كثر عددهم زمن العباسيين، وبنى لهم المعتصم مدينة سامراء، ثم جاء نجم الدين أيوب بأعداد كبيرة منهم إلى مصر، وجندهم في جيشه، بل جعلهم عمدة الجيش الأيوبي، وسرعان ما شكل هؤلاء المماليك نواةً عسكرية، تحولت بعد بضع سنين إلى دولة المماليك، التي قدِّر لها أن تنهض بدور خطير في تاريخ مصر السياسي، بل وفي تاريخ المنطقة كلها؛ لما يزيد على قرنين ونصف من الزمن([1]).

     كان أول ظهور حقيقي للمماليك على الساحة المصرية؛ عند تصديهم للحملة الصليبية السابعة، مع الملك الأيوبي تورانشاه، عام: (648 ه) عندما أظهروا بسالة منقطعة النظير في جهادهم الصليبيين، وكان من ذلك؛ أن استولوا على ثمانين سفينة من سفن الصليبيين، وقتلوا جميع بحارتها، فكان ذلك مما أضعف الصليبيين، واضطرهم لطلب الصلح، فارتفع بذلك شأن المماليك بين المسلمين، وعلا صيتهم([2])، وبقتل الملك: تورانشاه بعد ذلك؛ زالت الدولة الأيوبية، كما ذكرت سابقًا، وآل حكم مصر إلى المماليك.


 

شجرة الدر

     كان أول من رقي عرش مصر من المماليك الملكة: شجرة الدر، وهي جارية أرمنية، تزوجها حاكم مصر: نجم الدين أيوب بعد أن أعتقها، وكانت تتمتع بحنكة سياسية نادرة، مكنتها من القيام بدور خطير، زمن الحملة الصليبية السابعة على مصر، حيث توفي خلالها زوجها نجم الدين أيوب؛ فأخفت خبر موته عن الجيش المصري؛ حتى لا يضعف ويتخاذل، ويفلت الأمر من أيدي قادته، وعهدت بقيادة الجيش إلى الأمير فخر الدين، وبهذا التدبير الحكيم استطاعت أن تحفظ للجيش وحدته وتماسكه، حتى انجلى الصليبيُّون عن مصر، وبعدها تم تنصيبها ملكةً على مصر، وخطب لها على المنابر، الأمر الذي لم يُرضِ الخليفة العباسي في بغداد، ولا المسلمين في مصر، فثاروا عليها، حتى خلعت نفسها، وتنازلت عن الحكم لصالح الأمير: عز الدين آيبك، بعد أن تزوجته، وكان للشيخ العز بن عبد السلام (ت: 660 ه) دور بارز في خلعها([3]).

     أزعج الأيوبيين في الشام تولي عز الدين آيبك عرشَ مصر، وهم الذين يعتبرون أنفسهم الحكامَ الشرعيين للبلاد، ويرون المماليكَ دخلاء عليهم، فانشقت دمشق وغيرها من المدن الشامية عن مصر، وبدأ النزاع بينهم وبين المماليك، وأصبح ثمت قوتان، الأيوبيون في الشام، والمماليك في مصر، وأدى النزاع بينهم إلى أن يراسل كلٌ منهم الملك الفرنسي لويس التاسع، ليتحالف معه ضد الآخر، وعرض عليه الناصر يوسف الأيوبي، حاكم دمشق تسليم بيت المقدس له، شريطة أن يقف بجانبه في حربه ضد المماليك، لكن عز الدين آيبك حال دون هذا التحالف، وهدد لويس التاسع بقتل أسرى الصليبيين إن فعل ذلك؛ فالتزم لويس الحياد([4]).

     بعد أن يئس الناصر يوسف من لويس؛ زحف بجيشه إلى مصر لقتال المماليك، والتقى الجيشان قرب العباسية، ودارت بينهما معركة عام: (648 هـ) هزم فيها الناصر يوسف، بعد أن انشقت عنه فرقة المماليك العزيزية([5])، وكان لهذه المعركة أثرها في تثبيت أركان دولة المماليك الناشئة، وتوسعها إلى غزة، وغيرها من المدن الشامية.

     استغل لويس التاسع الصراع الإسلامي لصالح الصليبيين؛ فتحالف مع عز الدين آيبك على مناوأة الأيوبيين، وعقد معه اتفاقية عام: (650 هـ) يطلق بموجبها عز الدين آيبك سراح الأسرى الصليبيين، ويعده بالتنازل له عن مملكة القدس كلها[6]، لكن العداء بين المماليك والأيوبيين لم يُكتب له الاستمرار، حيث ظهر على الساحة عدوٌ جديد للمسلمين، أوجب عليهم أن يتحدوا، وهو ظهور المغول الذين وصلوا مشارف بغداد؛ فأرسل الخليفة العباسي رسولًا نجح في عقد صلح بين المماليك والأيوبيين، وكان هذا الصلح بمثابة ضربة، وجهت إلى الملك الفرنسي: لويس التاسع؛ فاضطر بعده لمغادرة فلسطين، والعودة إلى فرنسا، مجروحًا ذليلًا([7]).

     بعد أن انتصر المماليك على الأيوبيين في وقعة العباسية، عام: (648 هـ) ظنوا أن البلاد أصبحت ملكهم بلا منازع، وأيقنوا أنهم أصبحوا الحكام الشرعيين لمصر وما حولها، لكنَّ العرب في مصر لم يرضوا بسلطان مسَّه الرق، فقاموا بثورات تطالب بالملك، وكان من أبرز تلك الثورات: ثورة الشريف حصن الدين بن ثعلب، الذي أقام دولة عربية في مصر الوسطى، وفي منطقة الشرقية بالوجه البحري، لكن المماليك استطاعوا القضاء عليها، ومن ثمَّ أسر أميرها الشريف حصن الدين وقتله([8])، وبذلك تبدد شمل العرب في مصر، وخمدت جمرتهم، ولم تنجح ثوراتهم المستمرة فيما بعد من تغيير واقع مصر المملوكي. 

     تغيرت العلاقات بين شجرة الدر، وزوجها عز الدين آيبك؛ فأقدمت على قتله، وكان في ذلك حتفها، حيث قتلت بعده على يد ضرتها أم علي، التي نودي بابنها علي -البالغ من العمر خمسة عشر عامًا- ملكًا على مصر([9])، ولم يكن تنصيبه على عرش مصر إلا مسألة وقت، قُصد من ورائها الترتيب لاختيار أحد كبار المماليك حاكمًا لمصر، وشاء الله تعالى -ولا سيما بعد دخول المغول بغداد، واستيلائهم على بلاد الشام- أن يرقى عرش مصر الملك المظفر: سيف الدين قطز؛ ليقود المسلمين إلى نصر عين جالوت، ويدحر المغول([10]).

 



([1]( ينظر في ذلك: الصلابي، السلطان سيف الدين قطز، مصدر سابق، ص: (21 -24).

([2]( المصدر السابق ص 37،40، 43.

([3]( السرجاني، راغب السرجاني، قصة التتار من البداية إلى عين جالوت (القاهرة: مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة، ط 1، 1427/2006)   ص: 229.

([4]( يوسف، جوزيف نسيم، العدوان الصليبي على بلاد الشام هزيمة لويس التاسع في الأراضي المقدسة (القاهرة: دار الكتب الجامعية، ط 3، 1971) ص: ص: 144، 150.

([5]( طقوش، محمد سهيل، تاريخ الأيوبيين في مصر وبلاد الشام وإقليم الجزيرة (بيروت: دار النفائس، ط 2، 1429/2008) ص: 398.

([6]( الصلابي، السلطان سيف الدين قطز، مصدر سابق، ص: 72.

([7]( غوانمة، يوسف حسن، معاهدات الصلح والسلام بين المسلمين والفرنج (عمَّان: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ط 1، 1415/1995) ص: 78.

([8]( السيد، محمود السيد، تاريخ القبائل العربية في عصر الدولتين الأيوبية والمملوكية (القاهرة: مؤسسة شباب الجامعة، د. ط، 1988) ص: 131.

([9]( العبادي، أحمد مختار، قيام دولة المماليك الأولى في مصر والشام (بيروت: دار النهضة العربية، د. ط، 1406/1986) ص: 139.

([10]( الصلابي، السلطان سيف الدين قطز، مصدر سابق، ص: 86.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين