كان العالم الإسلامي عند ظهور المرابطين
يعيش ظروفًا سياسية حرجة، فملوك الطوائف في الأندلس منقسمون على أنفسهم، والسلاجقة
يحكمون بغداد، حيث أمر الخلافة فيها مهتزٌّ، والعبيديون في مصر قد تحالفوا مع
الفرنجة الصليبيين؛ لأجل مصالحهم وأطماعهم، وكان المغرب مقسمًا إلى دويلات مفككة؛
في هذه الظروف الصعبة شاءت حكمة الله وقدرته، أن تخرج دولة المرابطين السُّنيَّة؛
لتوحِّد المغرب وتطهِّره من آثار العبيديين، وتكون سدًا منيعًا أمام أطماع النصارى
في الأندلس، وتحمي الشمال الإفريقي من غاراتهم.
قامت دولة المرابطين جنوب المغرب الأقصى،
بزعامة الفقيه: عبد الله بن ياسين، والأمير يحيى بن إبراهيم، ثم توسعت حتى شملت
المغرب الإسلامي كله، وبلاد الأندلس، وذلك بعد معركة الزلاقة، عام: (479 ه) بقيادة
القائد الكبير: يوسف بن تاشفين، وفي مطلع القرن السادس الهجري، بدأ الضعف ينتاب
دولة المرابطين، لا سيما بعد ظهور دعوة محمد بن تومرت (ت: 524 ه) في المغرب
الأقصى؛ لتسقط علي أيدي أتباعه الموحدين؛ بعد قتل أميرها: إسحاق بن علي بن يوسف بن
تاشفين. [ينظر: الصلابي، علي الصلابي، تاريخ دولتي المرابطين والموحدين (بيروت:
دار المعرفة، ت، ط: 1432، ط: 4) ص: 259].
يرجع نسب المرابطين إلى قبيلة لمتونة
الصنهاجية، أكبر قبائل المغرب الإسلامي، وأكثرها انتشارًا، سكنت قبائل صنهاجة
الشمال الإفريقي، جباله وسهوله، وكانت تعتمد الزراعة، وتربية المواشي مصدرًا
للرزق، وقد كانت آثار العبيديين راسخةً في نفوس كثير من أبنائها، فانتشر بينهم
الجهل، وكثرت فيهم العادات الجاهلية المستقبحة وتفشت، كالزنى والزواج بأكثر من
أربع نسوة، وغيرها من العادات، حتى خرج أحد أمرائها؛ يحيى بن إبراهيم (ت: 440 ه)؛
قاصدًا بيت الله الحرام لأداء فريضة الحج، وكانت العادة أن يقترن الحج بطلب العلم
الشرعي، فساقته أقدار الله إلى مدينة القيروان، ورمت به في حلقة إمام أهل المغرب
في زمانه، الإمام: أبو عمران الفاسي (ت: 430 ه)، فحدَّثه الإمام عن سوء الأحوال
الاجتماعية في بلاده، وضرورة العمل على تغييرها، وبعث الإسلام في نفوس أهلها من
جديد، فطلب منه الأمير: يحيى بن إبراهيم أن يبعث معه من يعلم قومه الإسلام؛ فأرسله
أبو عمران إلى بلاد السوس أقصى المغرب، حيث تلميذه الشيخ: وجاج بن زلوا اللمطي (ت:
445 ه)، وبعد أن وصل إليه؛ أرسل معه الشيخ وجاج: الفقيه عبدَ الله بن ياسين (ت:
451 ه)، يعلم الناس الإسلام. [ينظر: بوتشيش، إبراهيم القادري، المغرب والأندلس في
عصر المرابطين (بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، ط 1، 1993) ص: 9].
واجهت عبدَ الله بن ياسين صعوبات كثيرة في
دعوة تلك القبائل، حيث وجدهم لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه، وقد ترك أكثرهم
الصلاة، وانحرفوا عن العقيدة الصحيحة، وتلوثت أخلاقهم وفسدت، فصبر على ذلك وصابر،
حتى أخذت دعوته تثمر فيهم، لكنَّ الله ابتلاه ببعض قساة القلوب، ممن تتعارض
مصالحهم وأطماعهم مع دعوته؛ فضيقوا عليه وشددوا، وهموا بقتله؛ فأشار عليه الأمير:
يحيى بن إبراهيم أن يتخذ لنفسه رباطًا في جزيرة بنهر السنغال، يربي فيها أصحابه
ويعلمهم، فعمل بتلك المشورة، فهرع إليه الرجال، وأخذ ابن ياسين ينظمهم، ويحضرهم
للمرحلة المقبلة التي يريد. [الصلابي، تاريخ دولتي المرابطين والموحدين، مصدر
سابق، ص: 27].
أنهى ابن ياسين بدعوته القبائل المرحلة
الأولى من مراحل دعوته، وهي التعريف بالإسلام وشرائعه، وبدأ في رباطه المرحلة
الثانية، وهي مرحلة التكوين، فربى مريديه على كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى
الله عليه وسلم، حتى حملوا الإسلام بصدق، ومن ثمَّ أصبحوا دعاتِه، فأخذ يرسلهم إلى قبائلهم، يعلمونهم الإسلام وسننه،
ولـمَّا لم تستجب لهم قبائلهم؛ خرج إليهم ابن ياسين بنفسه، مُبتدِأً بذلك المرحلة
الثالثة من مراحل دعوته، وهي مرحلة التنفيذ، فجمع شيوخ القبائل، ووعظهم وذكرهم،
فلم يستجيبوا له؛ فأعلن الجهاد عليهم وقاتلهم؛ حتى أخضعهم له، فبايعوه بعدها،
ودخلوا تحت لوائه، وبذلك أصبح للقبائل الصنهاجية في المغرب الأقصى؛ قيادة دينية
وسياسية، لها مجالس شورى، تدير دفتها وحركتها، وتتطلع لضم المغرب الأقصى كله تحت
قيادتها، وتزيل كل عائق يمنعها من تحكيم شرع الله تعالى.
أخذ ابن ياسين بعد ذلك يتوسع في المناطق المحيطة به، ينشر دعوته، وأخذت بعض القبائل تراسله للقدوم إليها، وكتب إليه فقهاء سجلماسة ودرعة، يرغبونه في الوصول إليهم، وتخليصهم من ظلم الدولة الزناتية[قامت الدولة الزناتية في المغرب بعد زوال دولة الأدارسة، واشتهر حكامها آخر زمانها بالجور والظلم، ينظر: العبادي، أحمد مختار، في تاريخ المغرب والأندلس (بيروت: دار النهضة العربية، د ط، د. ت) ص: 288]، فسار إليهم، بقيادة الأمير: يحيى بن عمر اللمتوني، وضم بلادهم إلى دولته الناشئة، ثم توجه بعدها إلى بلاد السوس، فضمها إليه أيضا، بعد أن أُسندت قيادة الجيش إلى القائد الكبير: يوسف بن تاشفين، المؤسس الفعلي لدولة المرابطين، وقائد مرحلة التمكين، وكان هذا الإسناد أول ظهور حقيقي ليوسف بن تاشفين، على ساحة الأحداث في المغرب الأقصى، بعدها سار عبد الله بن ياسين إلى أرض برغواطة [البرغواطية: إحدى الدويلات التي قامت في المغرب الأقصى، كانت متأثرةً بتعاليم اليهود المنحرفة، وببعض التعاليم الإسلامية، استمرت منذ عام: (125 ه) إلى أن قضى عليها المرابطون، منتصف القرن الخامس الهجري، قاسى أهل المغرب بسببها محنة كبيرة، ينظر: العبادي، في تاريخ المغرب، مصدر سابق، ص: 278]، ونشبت بينهم معارك حامية الوطيس، أثخنت في جنود الدولة البرغواطية، وفرقت جموعهم، وكسرت شوكتهم؛ حتى أعلنوا الطاعة والولاء للمرابطين، وقد كان الشيخ عبد الله بن ياسين، قد أصيب في هذه المعارك، بجراحٍ بليغة، أودت بحياته إلى الشهادة، وذلك عام: (451 ه) فعليه رحمات الله ورضوانه، واستمر بعده المرابطون يتوسعون في المغرب الأقصى، واختاروا مراكش عاصمةً لهم.
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول