دولة المرابطين - يوسف بن تاشفين (ت: 500 هـ)

     آل أمر المرابطين إلى القائد الكبير: يوسف بن تاشفين، الذي ترعرع وتربى على تعاليم الفقيه: عبد الله بن ياسين، وكان قائدًا من قواد المرابطين، يتلقى الأوامر وينفذها بكل نجاح، ويطَّلع على خفايا السلطة، دون تحمُّل مسؤوليتها؛ فشحذت تلك المرحلة ذهنه، وأهلته للمراحل التالية، واستطاع بعد تسلم قيادة المرابطين؛ أن يقودهم من نصر إلى نصر، حتى شملت دولتهم المغربَ الإفريقيَّ كله، وبلاد الأندلس.

     تابع يوسف بن تاشفين ضم بلاد المغرب إلى دولته، وتم له ذلك بعد جهادٍ استمر ثلاثين سنة، لينهيَ بذلك مرحلة التنفيذ، المرحلة الثالثة من مراحل دولة المرابطين، التي رسم خطوطها الفقيه: عبد الله بن ياسين، وينتقل إلى مرحلة التمكين في الأرض، المرحلة الرابعة من مراحل الدولة، فأخذ يطوف على قبائل المغرب، يتابع الأمراء، ويحاسب الولاة، وينشر العدل، ويرفع الظلم، حتى هابه الناس، وأيقنوا أنهم أمام قائد عبقري فذٍّ، لا يستهان به.

     أصبحت بعد ذلك دولة المرابطين، حصنًا أمينًا للمسلمين، وملاذًا آمنًا للمظلومين، وقوةً تشكل خطرًا على النصارى في الأندلس، بعد أن استفحل خطرهم فيها وعمَّ، أمام انقسام ملوك الطوائف فيها وضعفهم؛ مما حمل يوسف بن تاشفين على دخولها، وضمها إلى دولته.


 

يوسف بن تاشفين ودخوله الأندلس

     بعد سقوط الدولة الأموية على أيدي العباسيين، عام: (132 ه)؛ استطاع عبد الرحمن الداخل الأموي الهروب إلى الأندلس، وتأسيس إمارة أموية فيها، عام: (138 ه)، ثم بعد ضعف الخلافة العباسية في بغداد، وسيطرة العبيديين على بلاد المغرب، وإعلانهم الخلافة الفاطمية فيها عام: (298 ه)؛ أعلن الأمير الأموي في الأندلس: عبد الرحمن الناصر، قيام الخلافة الأموية فيها، وذلك عام: (316 ه)، وبعد أن نخرت هذه الخلافة الأحقاد والأطماع، والصراعات الداخلية؛ انقسمت الأندلس، وتفرقت إلى دويلات متناحرة؛ ليبدأ فيها عصر ما عُرف: بـ (عصر الطوائف)، وذلك عام: (400 ه)، ويدوم إلى عام: (484 ه).

     قامت في الأندلس في عصر الطوائف أربع دويلات هي: مالقة في الجنوب، ويحكمها الأدارسة، وإشبيلة في الغرب، ويحكمها بنو عباد، أقوى ملوك الطوائف، وطليطلة في الوسط، ويحكمها بنو ذي النون، الذين تحالفوا مع ملك قشتالة النصراني، ودفعوا له الجزية، وبلنسية ومرسية في الشرق، ويحكمها بنو عامر، ووقعت بين حكام هذه الدويلات خلافات كثيرة، جعلت القويَّ منهم يبطش بالضعيف، والضعيفَ يتحالف مع النصارى؛ يدرأ عنه خطر القوي؛ فاستغل هذا الانقسام ملك قشتالة، ألفونسو السادس، وانطلقت لذلك أطماعه من عقالها؛ فعمل على توحيد جهود النصارى، وسحق دولة الإسلام في الأندلس، واستطاع أن يستولي على طليطلة، وعلى غيرها من المدن الإسلامية حولها، ويعيث فيها قتلًا وتدميرًا، حتى تداعى علماء قرطبة وفقهاؤها، أمام هذا الضياع المفزع لممالك الإسلام في الأندلس، وأجمعوا على استدعاء المرابطين، الذين تربطهم بهم علاقات صداقة ومسالمة؛ فكتب المعتمد بن عباد إلى يوسف بن تاشفين بذلك، لتبدأ بينهم وبين المرابطين مرحلة التحالف والتعاون. [ينظر: شوقي، شوقي أبو خليل، معركة الزلاقة بقيادة يوسف بن تاشفين (دمشق: دار الفكر، ط 2، 1980) ص: (12 -21)].

معركة الزلاقة (479 ه)

     حظي نداء أهل الأندلس بقبول يوسف بن تاشفين؛ فعبر بجيشه البحر لنجدتهم، ولما وصلها أخذ يراسل ملوكها وأمراءها؛ يستنفرهم للجهاد، فلبوا نداءه، وخرج إليه بعضهم برجاله وماله، وبعضهم أرسل بعض كتائبه تقاتل معه، وبقي الآخرون يقاتلون النصارى ويدفعونهم؛ فسار يوسف بن تاشفين بجموع المتطوعين، حتى وصل سهل الزلاقة، قريبًا من بطليوس، وهناك أخذ ينظم جيشه؛ استعدادًا للمعركة القادمة مع النصارى.

     أزعج مجيء المرابطين ألفونسو، وشعر بعودة الروح المعنوية لأهالي الأندلس، الذين كان يسومهم العذاب الشديد، بقيادته حملةً صليبيةً شرسةً ضدهم، باركتها كنيسة روما، ودعمته بالجنود والعتاد والأموال؛ فاستنفر ألفونسو نصارى الأندلس كلهم لقتال المرابطين، وجنَّد كلَّ من يستطيع حمل السلاح منهم، صغيرًا كان أم كبيرًا، وخرج بجيش كبير لملاقاة المرابطين، قوامه أكثر من (60) ألف مقاتل، تتقدمه جموع الرهبان والقسيسين، يرفعون الإنجيل والصلبان؛ لإذكاء الحماس في نفوس الجنود.

     قبل بدء المعركة جرت مراسلات بين ألفونسو ويوسف بن تاشفين، دعاه فيها يوسف إلى الإسلام، فلم يقبل ذلك ألفونسو، بل اشتاط غضبًا وحقدًا، وثار لذلك حِنْقُه على المسلمين، فهدَّدهم وتوعَّدهم، مختارًا بذلك الحرب، فكانت معركة الزلاقة، التي أبلى فيها المسلمون بلاءً عظيمًا، بقيادة الشيخ: يوسف بن تاشفين، البالغ من العمر (79) عامًا، قدموا خلاها تضحيات جسيمة، وسقط منهم الكثير من الشهداء، وزلزلوا فيها زلزالًا شديدًا أمام ضربات النصارى الحاقدة؛ حتى ظن ألفونسو أن النصر أصبح حليفه؛ ولكن براعة القائد يوسف القيادية، وخبرته الحربية غيرت مجرى المعركة لصالح المسلمين، وتمكن من الالتفاف على جيوش ألفونسو، ومباغتة معسكرهم من الخلف، وإبادة حراسهم، وإحراق خيامهم؛ حتى هلعت قلوب النصارى؛ خوفًا مما رأوا، وقذف الله في قلوبهم الرعب فانهزموا، وأنزل الله نصره على المسلمين، بعد أن قتلوا آلاف الجنود من النصارى، وأصابوا قائدهم ألفونسو، إصابةً غير قاتلة، وانتهت المعركة بهزيمة تعيسة للنصارى.

     لقد كان انتصار المسلمين في الزلاقة؛ انتصارًا لا يقلُّ أهميةً عن انتصارهم في القادسية وحطين، وغيرها من معارك الإسلام الكبيرة، التي غيرت مجرى التاريخ، انتصارًا فتك في عضد النصارى، وحطم كبرياءهم، وقضى على أحلامهم في الاستيلاء على الأندلس، انتصارًا أخَّر سقوط الأندلس بأيديهم أكثر من (300) عام، رفع الله به مكانة المرابطين، وقائدَهم يوسف بن تاشفين في أعين المسلمين، وفي الأندلس والمغرب، وفي غيرها من ديار المسلمين، وأظهر وهن ملوك الطوائف في الأندلس وضعفهم، ومهَّد لزوالهم على أيدي منقذيهم، فيما بعد.

     وكان من أهم أسباب انتصار المرابطين في الأندلس، وتمكين الله لهم في الأرض؛ ما أقاموا عليه دولتهم، من تحكيم شرع الله فيها، ورفع راية الجهاد في سبيل الله بصدق، ونشر العدل بين الناس، ورفع الظلم عنهم.

     وبعد هذا الانتصار العظيم؛ ترك يوسف بن تاشفين غنائم المعركة لأهل الأندلس، ولم يأخذ منها شيئًا، ثم دعا أمراءها، وحضهم على الاجتماع والاتحاد، ضد عدوهم المشترك، وحذَّرهم التفرق والاختلاف، ثم قفل عائدًا إلى المغرب؛ بعد أن ترك ثلاثة آلاف جندي مرابطي؛ للدفاع عن ثغور الأندلس، جعل على قيادتهم: سير بن أبي بكر. [ينظر: شوقي أبو خليل، الزلاقة، مصدر سابق، ص: 39، 47].

     واصل سير بن أبي بكر غاراته على النصارى؛ بعد رجوع يوسف بن تاشفين إلى المغرب، واستطاعت قواته أن تثخن فيهم، كما وجَّه المعتمد بن عباد في هذه المرحلة ضربات موفقة للنصارى، استطاع بها دحرهم، ثم توجه إلى مرسية، التي تجمَّع قربها النصارى وتحصنوا، ولكنَّ المعتمد لم يستطع دخولها، وتركها لمصيرها، وأخذت قوات النصارى تتجمع من جديد حول ألفونسو؛ الذي لم يمضِ عامٌ على هزيمته في الزلاقة؛ حتى استعاد لجيشه قوته ونشاطه، وأخذ يُغير على أهل الأندلس من جديد، بارك حملته هذه بابا الفاتيكان، وسانده فيها بعض أمراء الأندلس بأموالهم، كابن رشيق صاحب مرسية، فتأذى أهل الأندلس منهم كثيرًا، فأرسلوا إلى يوسف بن تاشفين في المغرب، ومعهم المعتمد بن عباد؛ ليخلصهم من ظلم النصارى، وتآمر بعض أمرائهم معهم.

     فعبر يوسف بن تاشفين البحر إلى الأندلس مرةً أخرى، وذلك عام (481 ه)، وأقدم على حصار حصن (لييط) الذي تحصن فيه عدد كبير من جنود النصارى، وظهر له في الحصار خيانة ابن رشيق لجيش المرابطين، فاضطر ابن تاشفين لرفع الحصار، والرجوع إلى المغرب، وقد اطَّلع خلال عبوره ذلك على خيانات أمراء الأندلس ونزاعاتهم، تلك النزاعات التي كانت سببًا في ضعفهم، وتمرد النصارى عليهم؛ فأيقن أنهم لا يصلحون للحكم، ولا يعتمد عليهم في جهاد، وبعد رجوعه إلى المغرب؛ عرض أمر الأندلس وما آل إليه حال أمرائها على الفقهاء والعلماء، فأفتوا له بضرورة ضم الأندلس إلى المغرب، وكتب الإمام أبو بكر بن العربي (ت: 543 ه) إلى الإمام الغزالي (ت: 505 ه)، يشرح له حال أمراء الأندلس، وموقفهم من حركة ابن تاشفين الجهادية؛ فأفتى لهم الإمام الغزالي بجواز قتال أمراء الأندلس، وضم بلادهم إلى دولة المغرب باعتبارهم بغاة، خارجين عن سلطة الدولة المرابطية، التابعة للخلافة العباسية في بغداد.[ ينظر: شوقي أبو خليل، الزلاقة، مصدر سابق، ص: 58].

     بعد ذلك عبر الأمير يوسف بن تاشفين البحر إلى الأندلس مرةً ثالثة؛ بقوة ضخمة لضمه إلى المغرب، والقضاء على ملوك الطوائف فيها، ووضع حدٍ لمهزلتهم، ولقد حاول المعتمد ابن عباد (ت: 488 ه)، وغيره من أمراء الأندلس، ثنيه عن هذه الخطوة، لكنه لم يلتفت إليهم، فقسَّم جيشه أربعة أقسام، واستطاع فتح غرناطة وأسر أميرها، ثم ضم إليه قرطبة، عام: (484 ه)، ولـمَّا وصل المرابطون ضواحي طليطلة؛ اشتد خوف أميرها: المعتمد بن عباد، فأرسل إلى ألفونسو، يستنجده ضد المرابطين.

     وهكذا عقد الخطر المشترك أواصر الصداقة بينهما؛ فأمده ألفونسو بقوات كبيرة، لكنها لم تغنِ عنه شيئًا أمام ضربات المرابطين، فسقطت طليطلة بأيديهم، ووقع المعتمد أسيرًا، كما سقطت إشبيلية عنوةً، على يد القائد: سير بن أبي بكر (ت: 507 ه)، وبسقوطها تزعزعت باقي المدن والحصون الأندلسية، لتصبح بذلك إسبانيا المسلمة تحت قبضة دولة المرابطين الفتية، وذلك عام: (487 ه)، إلا ولاية سرقسطة، التي أبلى حاكمها أحمد بن هود، في قتال النصارى بلاءً حسنًا، وجاهدهم جهادًا أقنع يوسف بن تاشفين؛ فأبقاه في ملكه، وظلَّ ابن هود سدَّاً منيعًا في الثغور الشمالية الأندلسية، وشوكةً في حلق النصارى، وكلفهم خسائر هائلة في الأموال والأرواح. [ينظر: شوقي أبو خليل، الزلاقة، مصدر سابق، ص: 60].

     وبعد هذا الانتصار العظيم ترك يوسف بن تاشفين الأندلس عائدًا إلى المغرب؛ ليرجع إليها مرةً رابعة، ويشرف على تنظيم شؤونها، وسير إداراتها بنفسه، كما هي عادته في الحكم، ويعهد إلى ابنه علي بولاية العهد، أمام قادة الأندلس وأمرائها، وكان مما أوصاه أن يبقي في الأندلس جيشًا من المرابطين، قوامه سبعة عشر ألف جندي، يوزعون على ولاياتها، ثم عاد بعدها إلى مراكش مركز دولته، وفارق الحياة فيها، عن عمر يناهز الـ (100) عام، وذلك عام: (500 ه). [ينظر: شوقي أبو خليل، الزلاقة، مصدر سابق، ص: 69].


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين