دولة الكتاب والحكمة -6- ورثة الأنبياء صنفان

روى الترمذي في سننه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {مَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَبْتَغِي فِيِه عِلْماً سَلَكَ الله له طَرِيقاً إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ المَلاَئِكَةَ لتَضَعُ أَجْنَحِتَهَا رِضًى لِطَالِبِ العِلْمِ، وَإِنَّ العَالِم لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ في السَّمَواتِ وَمَنْ في اْلأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ في المَاءِ، وَفَضْلُ العَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ، كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، إنَّ الاْنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرَّثُوا دِينَاراً وَلاَ دِرْهَماً، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظٍ وَافِرٍ}. (صححه الألباني). وهكذا يكون علماء الدين ورثة لمحمد صلى الله عليه وسلم في أمور الكتاب، ويكون علماء الدنيا من طب ونفس واجتماع واقتصاد وسياسة وغيرها من العلوم ورثة للنبي صلى الله عليه وسلم في أمور الحكمة. رسالته تألفت من الكتاب والحكمة، وورثته صنفان: الأول يرث دوره في تبليغ الكتاب، والثاني يرث دوره في النهوض بحياة الأمة وقدراتها في مجال الحكمة.

 

صحيح أن هنالك الكثير من أمور الحكمة صارت من الكتاب عندما فرضها أو حرمها الله ورسوله بشكل بيِّن كالخمر والميسر والربا، لكن باقي الأمور الحياتية التي لم يرد فيها نص (آية أو حديث شريف) قطعي الثبوت قطعي الدلالة تبقى في دائرة العفو المتروك لعقولنا وحكمتنا وعلمنا واكتشافنا، دون تحليل أو تحريم. أي ما ثبت بالدليل القطعي أنه فرض أو أنه محرم هو الذي نأثم إن خالفناه أما ما سوى ذلك فعقوبتنا عليه تكمن في العاقبة غير السارة لأفعالنا غير المناسبة، ولا دور لعلماء الشريعة في الإفتاء فيها. وسيكون على علماء الدين القيام بما يسمى "تحقيق المناط" مثل التأكد من أن عملية مالية مستجدة، ليست صورة من صور الربا المحرم، كالتَّوَرُّق الذي تمارسه المصارف الإسلامية، ومثل التأكد هل المسابقات التي تجريها بعض الجهات عن طريق قيام الناس بالاتصال الهاتفي بها اتصالاً يكلفهم أضعاف الكلفة الحقيقية، وتستوفي هذه الجهة الجزء الأكبر من هذه الرسوم، بعد أن تقتطع شركة الهاتف رسوم الاتصال وعمولتها على تحصيل الأموال التي تذهب إلى الجهة المنظمة لهذه المسابقة، والتي في النهاية، تجري سحباً أو قرعة، ليفوز أحد الذين اتصلوا بجائزة كبيرة، واضح أنها تكون من المال الذي جمعته هذه الجهة من المتصلين، ليبقى لها ربح كبير، فيبحث العلماء هل هذه المسابقة صورة من صور الميسر والقمار المحرم أم لا. سيسهر العلماء على تطبيق الشريعة كما جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يقوم الفقهاء بتوسيعها لتغطي كل شأن من شؤون الحياة وتعطيه حكماً شرعيا يكون بالضرورة حكماً اجتهادياً، يغلب أن يختلف فيه الفقهاء وتتعدد أحكامهم تعدداً يحير الناس هل الأمر حلال أم حرام.

 

وهذا يعني أن دور علماء الدين في الدولة الإسلامية يجب أن يبقى محصوراً في تعليم الناس دينهم وحثهم على الالتزام بما ثبت أنه حلال بَيِّن أو حرام بين، دون أن يبحثوا عن حكم شرعي لكل أمر، فالخمر والميسر بين الله أن أضرارهما أكبر من منافعهما، لكنه تركهما دون حكم شرعي يحرمهما مرحلة من الزمن، ريثما تم إعداد الناس لتحريمهما، بحكم أنهما مما تدمن النفوس عليه من عادات، يصعب عليها تركه بمجرد أمر ينزل حتى لو كان من رب العالمين. وأعطي مثالاً التدخين مرة أخرى، حيث يكون دور علماء الدين بخصوصه هو نصح الناس وتوعيتهم، لا البحث عن حكم شرعي بتصنيف التدخين على أنه حرام يأثم من يقع فيه إثماً دينياً. هذه ليست دعوة إلى التدخين، لكنها دعوة لحصر دور علماء الدين ودور الشريعة الإسلامية في ما ثبت تحريمه أو فرضيته ثبوتاً قاطعاً، دون أن نقيس ما يستجد على ما ذكر في القرآن والحديث، بل نتركه خارج دائرة الحلال والحرام، أي خارج دائرة الدين، لنكون نحن أعلم بأمور دنيانا. وهذا يعني تحرر الدولة الإسلامية من هيمنة علماء الدين عليها، ومن تدخلهم في كل صغيرة وكبيرة فيها، بحجة أنهم هم من يعلم حكم الشرع فيها، وهذا يجعلها فعلاً دولة مدنية تحكم ثوابت الشريعة، وتترك الخلافيات كلها، ولا تبحث عن أحكام شرعية للمستجدات، بل تبحث في نفعها وضررها.

 

لقد استفادت الأمة من إحياء فكر ابن تيمية وابن القيم كثيراً، لكنها حتى الآن لم تنتفع بفكر ابن حزم إلا قليلاً. إن قيام الفقهاء باستنباط أحكام فقهية لكل ما يستجد في حياة الناس شيء لم يأمر به الله في كتابه، ولم يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديثه الشريف، إنما كان اجتهاداً منهم، أدى إلى تقييد المؤمن وجعله جندياً لله ينفذ أوامره الحرفية ولا يبدع في شيء، لأن ما يصل إليه الفقهاء بالقياس أو غيره من آليات الاجتهاد الفقهي، يعتبره الفقهاء تشريعاً من الله، له نفس قدسية الأحكام التي أنزلها الله واضحة بينة في كتابه الكريم، فيضطر المؤمن إلى تكييف حياته بحسب هذه الاجتهادات. أسلافنا كانوا يرون الملائكة أفضل الخلق عبادة لله، لأنهم لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، وظنوا أن خالقنا يريد منا أن نعبده كما تعبده الملائكة، ونسوا أن الله خلقنا لنكون خلفاءه في الأرض، نعبد الله بطريقة مختلفة عن طريقة الجندي، لأن الخليفة أعلى قدراً ومكانة من الجندي، ألم يكرم الله آدم وأمر ملائكته أن يسجدوا له سجود التحية عندما خلقه؟ الخليفة له صلاحيات يتصرف بموجبها كما كان من استخلفه سيتصرف. الخلافة في الأرض نوع من الرئاسة والقيادة، لأنها خلافة للعظيم، القاهر فوق عباده، القوي العليم.

الإسلام دين مكون من عقيدة تلخصها أركان الإيمان، ومن منهج للعبادة تلخصه أركان الإسلام، ومن شريعة اكتملت قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا داعي لإضافة أي شيء عليها، إنما هي الحكمة نعرف بها ما ينفعنا وما يضرنا، فنكثر من النافع ونتجنب الضار.

 

الإسلام دين يحتوي شريعة، ويحتاج الناس إلى دولة تقوم على شؤونهم وتحكم فيهم بما حكم به الله من أحكام أنزلها على الرسول صلى الله عليه وسلم، ويترك مجالاً واسعاً جداً للبشر ينظمون شؤونهم التي سكت عنها رب العالمين، وتركها لحكمتهم وفطرتهم، فهم مفطورون على حب الخير وكراهية الشر، وقد وهب الله لهم عقولاً يحب أن يراهم يُعْملونها، ويهتدون بها إلى الصواب في كل المستجدات التي لم يأت لها حكم في القرآن أو السنة.

 

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين