دولة الكتاب والحكمة -5- غاية الفروض والتحريمات

عندما يفرض ربنا علينا شيئاً أو يحرم شيئاً آخر يكون القصد منه اختبار طاعتنا له كي يثيب الطائع ويعاقب من يفسق عن أمره ويعصيه، لكن ربنا الرحمن الرحيم لم يحرم علينا إلا ما يضرنا ولم يفرض علينا إلا ما ينفعنا. قال تعالى في سورة آل عمران: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)}. نحن أصحاب مصلحة دنيوية في أن نحرم على أنفسنا ما يضرنا وفي أن نفرض عليها ما ينفعنا، ومع ذلك جعل ربنا لنا الثواب على فعل ما ينفعنا وعلى اجتناب ما يضرنا.

 

الأمر أكثر وضوحاُ في هذه الآية الكريمة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) } (البقرة). هذه الآية أصل من أصول الإسلام التي لم تحظ بالاهتمام الذي تستحقه. لنتأمل قوله تعالى (وإثمهما أكبر من نفعهما) لنرى الإثم ضداً للنفع، مع أن النفع ضد الضرر، وهذا يعني أن الإثم في ديننا والضرر شيء واحد، أي لم يؤثِّم ربنا شيئاً إلا وهو ضار لنا، ولم يحرم علينا شيئاً نفعه أكبر من ضرره. هذه ميزة لديننا يحق لنا أن نباهي بها ونبرزها لتعلم البشرية كيف يضمن الإسلام سعادة الدنيا قبل سعادة الآخرة، وكيف يزاوج بين الدنيا والآخرة بحيث تصبح حياة المؤمن كلها عبادة له بها أجر بمجرد أن يتقي الله فيها باجتنابه ما حرم عليه مما يضره ويؤذيه.

هذه الآية لم تحرِّم الخمر والقمار مع أنها بينت أن أضرارهما أكثر من منافعهما، لذا استمر كثيرون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعاطي الخمر ولعب القمار رغم الآية الكريمة لأنهم كانوا مدمنين، والمدمن يجد صعوبة في الإقلاع عما أدمن عليه، وقد مضى زمن ليس بالقصير قبل أن تنزل آية أخرى تحرم الخمر والميسر بشكل نهائي وقاطع.

 

لكن من رحمة ربنا ولثقته بنا وبحكمتنا لم يكثر علينا من الفرائض والتحريمات، بل سكت عن الكثير من الأمور وتركها لنا ولحكمتنا، أي الكثير من الأمور بقيت معلقة في مرحلة {وإثمهما أكبر من نفعهما} حيث تفرض علينا عقولنا بما جبلت عليه من حكمة أن نبتعد عنها دون أن يكون وقوعنا فيها مدعاة للعقاب في الآخرة، إذ تكفينا العقوبة الحتمية التي تقع علينا عندما نرتكب تلك الأمور التي ضُرُّها أكبر من نفعها، فالذي يدخن التبغ من أجل المتعة عقوبته حتمية من خلال الضرر الصحي الذي يصيبه نتيجة التدخين دون أن يكون للتدخين حكم شرعي من تحليل وتحريم.

 

 

نعود إلى قوله تعالى: {وإثمهما أكبر من نفعهما} لنتبين أصلاً عظيماً من أصول ديننا لم ينتبه له القدماء وهو مجيء لفظ إثمهما كضد لنفعهما، أي جاء لفظ الإثم مكان لفظ الضر حيث الضر هو الذي ضد النفع، وهذا يعني أن الإثم والضّر يحل كل منهما محل الآخر في الإسلام، وبالتالي لم يحرم علينا ربنا إلا ما هو ضار لنا ولا يمكن أن يحرم علينا شيئاً نفعه أكبر من ضره. وهكذا نجد الإسلام دين الفطرة والعقل والمنفعة بخلاف باقي الأديان التي قد تمتحن الناس بتحريمها عليهم بعض ما ينفعهم أو بفرضها عليهم بعض ما يضرهم.

 

ولا عجب إن لم نجد في القرآن والحديث الشريف مفهومي الخير والشر كمفهومين مطلقين كما هو الحال في الأديان والمعتقدات الأخرى. لا شيء هو خير أو شر بشكل مطلق، بل هنالك ما هو خير لنا من حيث غلبة المنفعة لنا فيه على المضرة وهنالك ما هو شر لنا من حيث غلبة الضرر فيه لنا على النفع. هنالك خير وشر بالنسبة لنا نحن البشر حيث الخير هو النفع وحيث الشر هو الضرر، أما بالنسبة إلى الله فالأمور كلها متساوية لأنه لا شيء قادر على نفعه ولا شيء قادر على ضره فهو الصمد الغني القدير.

 

الحكمة مكمّلة للشريعة

يقول ابن حجر في فتح الباري: واخرج الدارقطني من حديث أبي ثعلبة رفعه «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها» وله شاهد من حديث سلمان اخرجه الترمذي، وآخر من حديث ابن عباس أخرجه أبو داود. وقد روي معنى هذا الحديث مرفوعا من وجوه أخر، أخرجه البزار في مسنده والحاكم من حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا ثم تلا هذه الآية: وما كان ربك نسياً) (مريم : 64) ، قال الحاكم:  صحيح الإسناد، وقال البزار:  إسناده صالح.

 

وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري: «الحَلالُ بَيِّنٌ، وَالحَرامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهما مُشَبَّهاتٌ لا يَعْلَمُها كثيرٌ منَ الناسِ. فمنِ اتَّقى المُشَبَّهاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينهِ وعِرْضِه، ومَنْ وَقَعَ في الشُّبُهاتِ: كراعٍ يَرْعَى حَوْلَ الحِمى يُوشِكُ أنْ يُواقِعَه. ألا وإِنَّ لِكلِّ مَلكٍ حِمى، ألا إِنَّ حِمَى اللهِ فِي أرضِهِ مَحارِمُه. ألا وإِنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً: إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسدُ كلُّه، وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجسَدُ كله، أَلا وهِيَ الْقَلْبُ». وقال أيضاً: {الحلالُ بيِّنٌ، والحرامَ بينٌ وبينهما أمورٌ مُشتبهة. فمَن ترَكَ ما شُبِّهَ عليهِ منَ الإثمِ كان لِما استبانَ أتْرَكَ ومنِ اجْترأَ على ما يَشُكُّ فيه منَ الإِثمِ أوْشَك أن يُواقِعَ ما اسْتبانَ. والمعاصِي حمى الله، مَن يَرْتعْ حَولَ الحِمى يُوشِكْ أن يُواقِعَه}.

 

وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا .... (3)}  (المائدة).

 

أي الدين كامل بما هو بَيِّنٌ من حرام وما هو بين من حلال بموجب النصوص القرآنية والحديثية قطعية الثبوت وقطعية الدلالة، وما سوى ذلك لا داعيَ للبحث عن حكم شرعي له إنما هو مما سكت الله عنه رحمة بنا، وتركه لحكمتنا وعقولنا التي ركب فيها حبنا لما هو نافع وكرهنا لما هو ضار، وهذا ما يجب أن نتقيد به إن أمكننا أن نقيم دولة إسلامية. أي ندعو الناس إلى الحلال البَيِّن وننهاهم عن الحرام البَيِّن ولا نقحم الدين فيما سوى ذلك من أمور مستجدة أو قديمة سكت عنها الشرع وتركها لنا نختار فيها الخير ونتجنب الشر.

 

واكتمال الدين قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم يعني اكتمال الأحكام ضمن ما اكتمل من الدين، قال ابن منظور في لسان العرب: {الديان: من أسماء الله عز وجل، معناه الحكم القاضي. وسئل بعض السلف عن علي بن أبي طالب، عليه السلام، فقال: كان ديان هذه الأمة بعد نبيها أي قاضيها وحاكمها. والديان: القهار... وقيل: الحاكم والقاضي، وهو فعال من دان الناس أي قهرهم على الطاعة. يقال: دنتهم فدانوا أي قهرتهم فأطاعوا. وفي حديث أبي طالب: قال له، عليه السلام: أريد من قريش كلمة تدين لهم بها العرب أي تطيعهم وتخضع لهم. . ...  والدين الحساب، ومنه قوله تعالى: مالك يوم الدين، وقيل: معناه مالك يوم الجزاء. وقوله تعالى: ذلك الدين القيم، أي ذلك الحساب الصحيح والعدد المستوي. والدين الطاعة. وقد دنته ودنت له أي أطعته.......  والجمع الأديان يقال: دان بكذا بديانة، وتدين به فهو دين ومتدين. ودينت الرجل تديينا إذا وكلته إلى دينه. والدين: الإسلام، وقد دنت به.... وفي الحديث: الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله، قال أبوعبيد: قوله دان نفسه أي أذلها واستعبدها، وقيل: حاسبها.... وفي التنزيل العزيز: ما كان ليأخذه أخاه في دين الملك، قال قتادة: في قضاء الملك..... ودنته أدينه دينا: سسته. ودنته: ملكته. ودينته أي ملكته. ودينته القوم: وليته سياستهم....  والدين: الحال. قال النضربن سميل: سألت أعرابيا عن شيء فقال: لو لقيتني على دين غير هذه لأخبرتك. الدين ما يتدين به الرجل. والدين: السلطان. والدين: الورع. والدين: القهر. والدين: المعصية. والدين: الطاعة. وفي حديث الخوارج: يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، يريد أن دخولهم في الإسلام ثم خروجهم منه لم يتمسكوا منه بشيء كالسهم الذي يدخل في الرمية ثم نفذ فها وخرج منها ولم يعلق به منها شيء،قال الخطابي: يعني قوله، صلى الله عليه وسلم، يمرقون من الدين، أراد بالدين الطاعة أي أنهم يخرجون من طاعة الإمام المفترض الطاعة وينسلخون منها... }. وللدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله مقالة مفصلة عن معنى كلمة دين موجودة على هذا الرابط هنا

 

جاء فيها: {فإذا قلنا: (دانه دِينًا) عنينا بذلك أنه مَلَكَه، وحَكَمَه، وساسه، ودبره، وقهره، وحاسبه، وقضى في شأنه، وجازاه، وكافأه. فالدِّين في هذا الاستعمال يدور على معنى المُلك والتصرف بما هو من شأن الملوك؛ من السياسة والتدبير، والحكم والقهر، والمحاسبة والمجازاة. ومن ذلك: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]، أي يوم المحاسبة والجزاء. وفي الحديث: "الكَيِّسُ من دان نفسه"، أي حَكَمَها وضَبَطَها. و(الديَّان) الحَكَم القاضي}.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين