دولة الكتاب والحكمة -4- دولة مدنية بمرجعية إسلامية

في وجه الهجوم على المشروع الإسلامي باتهامه أنه يسعى لإقامة دولة دينية يبذل الإسلاميون وسعهم لإقناع مجتمعاتهم أن الدولة الإسلامية لم تكن دينية في يوم من الأيام، وأنهم إنما يسعون إلى دولة مدنية بمرجعية إسلامية، أي دولة تحكم الشريعة الإسلامية لكن الحكام فيها ليسوا موكلين من رب العالمين ليسوسوا الناس باسمه وبسلطانه، الحكام في الدولة الإسلامية المنشودة موكلون من قبل الأمة وهي التي تختارهم  وتكلفهم كي يحكموها بشرع الله. الأمة لها الحق أن تختار الحاكم لكن لا خيار لها فيما يتعلق بالقوانين التي ستخضع لها، فالأمر محسوم لأن الحاكمية لله والإسلام هو مصدر التشريع والفقهاء جاهزون لاستنباط أحكام شرعية لكل ما يستجد من قضايا ومشكلات. الإسلاميون يسمونها دولة مدنية لأن السياسيين فيها ليسوا علماء الدين ولا يستمدون أية شرعية استثنائية مستمدة من الاعتقاد أنهم مفوضون من الخالق، هم وكلاء عن الأمة لكنهم والأمة معهم لا خيار لهم إلا الخضوع للشريعة، والفقهاء ليسوا هم الحكام لكن هم الذين يشرفون على كل شيء ويراقبون تطبيق هؤلاء الحكام للشريعة، وهم الذين يجيزون ما أصدره الحكام المدنيون من أحكام وقوانين إن كانت متفقة مع الشريعة ويستنبطون أحكاماً جديدة انطلاقاً من النصوص التي عندهم وفيما لا نص فيه فهم يقيسون الأمر المستجد على أمر يشترك معه بعلة التحريم أو الفرضية فيصلون إلى حكم لكل مستجد حتى لو لم تكن هنالك نصوص من القرآن أو الحديث.

الدولة المدنية بالمرجعية الإسلامية لا هي دولة دينية كالدولة الدينية التي حكمت أوربا قروناً ثم نجح الناس هناك في التمرد عليها وإقامة دول علمانية مؤسسة على المواطنة حيث يتساوى فيها الجميع يالحقوق والواجبات مؤمنين كانوا أو ملحدين، مسيحيين كانوا أو يهود، رجالاً كانوا أو نساء. دولاً تم فيها حصر الدين في الحياة الشخصية، وتم فيها عزله عن كل ما يمت للدولة بصلة حتى إن المدارس الحكومية لا تدرس الدين لتلاميذها.

 

الإسلاميون يكتشفون الديمقراطية

بعد أن أدرك الإسلاميون في بلادنا أنهم غير قادرين على مغالبة المجتمع الدولي لإنشاء دول إسلامية كما يحلمون عن طريق القوة والغلبة والاستيلاء على السلطة لا حباً بالسلطة، بل استكمالاً لإقامتهم لدين الله الإسلام الذي يرونه ديناً ودولة، يبقى تطبيقه ناقصاً ما لم تقم له دولة تحكم بشريعته، أخذ الإسلاميون يقبلون الديمقراطية ويطالبون بها، لثقتهم بأنها الطريق التي يمكن أو توصلهم لأسلمة دولهم من خلال صناديق الاقتراع، طالما أن أغلبية الناس في بلادهم مسلمون. رفعوا لواء الديمقراطية وأعلنوا قبولهم بما تأتي به الديمقراطية، لكن المتخوفين من الدولة الإسلامية على كافة طوائفهم لم يقبلوا الدعوة إلى الديمقراطية دون علمانية، لأنهم يخافون من استبداد الأغلبية التي ستستطيع عن طريق صناديق الاقتراع أن يفرضوا وجهة نظرهم على الجميع.

التحدي الآن هو إيجاد شكل للدولة تكون فيها إسلامية ومدنية أي علمانية في الوقت نفسه، أي دولة تجمع المتناقضات في بنيانها والفلسفة التي تقوم عليه، لأن الدولة المدنية طالما ستطبق الشريعة على مواطنيها فلن تكون إلا شكلاً مقنعاً من الدولة الدينية إلا إن كان المقصود بالدولة المدنية أن تكون دولة نصف علمانية لكنها لا تعادي الأديان ولاتقصيها إقصاء تاماً عن كل ما يمت للدولة بصلة، أي تبقى الأديان في المناهج الدراسية وتبقى قوانين الأحوال الشخصية مستمدة من من الأديان، أي باختصار بقاء الحال على ما هو عليه الآن. هذا الشكل للدولة يقضي على آمال الإسلاميين في تطبيق الشريعة وإقامة الدولة الإسلامية، وهم ليسوا مستعدين لهذا الخيار حتى إن قبلوا تأجيل تحقيق حلمهم حتى حين، أو رضوا بالتدرج البطيء في تطبيق الشريعة.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين