دولة الكتاب والحكمة -3- أشكال تطبيق الشريعة


تركيز أغلب الإسلاميين على الحكم بما أنزل الله وإقامة الدولة الإسلامية جعلهم العدو الأول للحكام في الغالبية العظمى من بلدان العالم الإسلامي، وجعل مكانهم الطبيعي السجون، لكن الحال بدأ يتغير فالسنوات القليلة الماضية بفعل الثورات التي شهدتها عدة بلدان إسلامية، حيث انتقل إسلاميون فيها من السجون إلى كراسي الحكم، وإن كانت سلطتهم الحقيقية أقل بكثير مما يبدو ظاهراً، لأن عناصر القوة في تلك المجتمعات ما زالت بأيدي الذين كانوا يمسكون بها قبل الثورات. والإسلاميون الذين شاركوا في الحكم بعد الثورات مربكون وربما متحيرون. قواعدهم تطالبهم بتحكيم الشريعة ومجتمعاتهم متخوفة أن تحكم على الطريقة الطالبانية أو الإيرانية الإسلامية حيث تقيد الحيات الشخصية ويجبر الناس على الالتزام بما ليسوا مستعدين له. والمشكلة أكبر حيث توجد طوائف غير مسلمة أو علمانية وربما ملحدة. ثم هنالك ما يسمى المجتمع الدولي أي الدول الاستعمارية المهيمنة لا يسمح بإقامة أي دول جديدة على الطراز الطالباني أو الإيراني، وكذلك هذه المجتمعات غير مستعدة لأن يطبق عليها نموذج الدولة الإسلامية السعودية حيث يعاني الناس الكثير من القيود على حرياتهم الشخصية الناتجة في الحقيقة عن الطبيعة القبلية التي تسيطر فيها التقاليد على المجتمع السعودي أكثر منها قيود تفرضها الدولة، بل الناس هم الذين يقيدون أنفسهم لكن الناظر من بعيد يظن أن القيود مفروضة عليهم من الدولة باسم الإسلام، لذا ليس للنموذج السعودي للدولة الإسلامية شعبية لدى المسلمين في البلدان الإسلامية الأخرى.

 

قبل عشر سنوات ظهر نموذج للدولة التي ليست إسلامية إنما يقودها إسلاميون يسخرون أمانتهم وإخلاصهم لبناء الاقتصاد ورفع مستوى الرفاهية والأمان دون أي تحكيم للشريعة لأن الدولة علمانية ولن تسمح لهم أن يحكموا إلا على هذا الشرط، أقصد تركيا بعد أن تسلم إدارة الدولة فيها حزب العدالة والتنمية. المتخوفون من الدولة الإسلامية الذين ينظرون إلى الأغلبيات التي حصل عليها الإسلاميون بالديمقراطية يتمنون لو يحذو الإسلاميون في بلدان الربيع العربي حذو الإسلاميين الأتراك فيؤسسوا دولاً علمانية يحكمها إسلاميون ولا يحكمها الإسلام. لكن ما اعتبر نجاحاً كبيراً للإسلاميين الأتراك يعتبر إخفاقاً عظيماً لأي فئة من الإسلاميين تحاول تقليده في بلدان الربيع العربي، إذ لا الجماهير ولا قواعد الجماعات الإسلامية تقبل بالتراجع إلى دولة علمانية وهم الآن ينعمون بدول نصف علمانية ما يزال للإسلام فيها تأثيره في الحياة العامة وإن كان تأثيراً محدوداً.

 

الأكثرية في بلداننا الإسلامية تدين بالإسلام لكنها لا تريد دولة تكون فيها الكلمة الأولى والأخيرة لعلماء الدين يفتون في كل شأن من شؤون الدولة ويتدخلون في كل قرار بحكم أنهم أقدر الناس على معرفة الحلال والحرام، هذه الأكثرية عندها عواطف إسلامية لكنها اعتادت على الحرية الاجتماعية منذ جاء الاستعمار الأوربي الذي عطل الشريعة وغير في العادات والتقاليد لصالح المزيد من الحريات الشخصية وإن لم يكن هنالك حريات تعبير أو سياسة موازية.

 

*       دولة إسلامية علمانية

السؤال الآن هل يتسع الإسلام لتصور للدولة يكون إسلامياً وعلمانياً في نفس الوقت؟ وجوابي هو نعم بكل تأكيد. لكن كيف؟

 

لنرجع إلى القرآن الكريم لنتبين لم أرسل الله الرسل في أقوامهم وختم بمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً للبشرية كلها. يقول تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)} (الحديد). ليقوم الناس بالقسط أي بالعدل. هذا هو الهدف من إرسال الرسل جميعهم بالبينات والكتب المنزلة والموازين التي تمكن الناس من تحقيق القسط والعدل، لأنه لا بد من أجل الوصول إلى العدل من معايير نهتدي بها.

 

حتى يتحقق الهدف الأكبر من إرسال الرسل وهو قيام الناس بالقسط والعدل أرسل الله الرسل ليعلموا البشرية شيئين لا غنى لها عنهما حتى تقوم بالقسط هما الكتاب والحكمة، ولنتأمل هذه الآيات الكريمة:

 

{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} البقرة129

 

{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} البقرة151

 

{.... وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} البقرة231

 

{وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ} آل عمران48

 

{لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} آل عمران164

 

{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً} النساء54

 

{وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} النساء113

 

{إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ...} المائدة110

 

{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} الأحزاب34

 

{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} الجمعة2

 

"الكتاب" هو الكتاب، أي ما أنزله الله على رسله من كتب هداية للبشرية، فيها ما لم تكن قادرة على الوصول إليه وحدها، مثل الغيبيات كلها، والفرائض والمحرمات، وقصص من قبلنا، وأخبار يوم القيامة، والجنة والنار وغير ذلك.

 

لكن ما "الحكمة" في هذه الآيات؟ بعض فقهائنا القدامى صرف معناها عن ظاهره وقال إن كان الكتاب الذي بعث محمد صلى الله عليه وسلم ليعلمنا إياه هو القرآن الكريم فلابد أن تكون الحكمة هي السنة المطهرة. من حيث المبدأ هذا ممكن، لكنه تأويل لكلمة الحكمة وصرف لها عن ظاهرها لا داعي ولا مبرر له. قال تعالى: {الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)} (يوسف). وقال أيضاً: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)} (الزخرف). أي القرآن عربي مبين لنفهمه كما تفهم اللغة العربية حيث المعنى الظاهر هو الأصل ما لم يقم دليل قوي على أن المقصود شيء آخر.. وهذا يعني أن الحكمة المذكورة في الآيات السابقة هي بكل بساطة الحكمة، أي كما قال ابن القيم في مدارج السالكين: (الحِكْمَة: فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي)، أي هي العلم والخبرة التي يكتسبها الإنسان، أي إنسان إن توفر له حداً أدني من الذكاء ومن العلم والخبرة الحياتية أو المهنية، فيصبح حكيماً إما بشكل عام بما يخص الحياة الإنسانية، وإما حكيماً في مجال ما، فالطبيب من قديم الزمان يسمى الحكيم، جاء في لسان العرب: {يقال الحكيم: الذي يحكم الأشياء ويتقنها، وقيل الحكيم ذو الحكمة، والحكمة: "عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم" ويقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويتقنها، حكيم}.

 

وحتى نتأكد أن كلمة حكمة في القرآن الكريم تعني الحكمة المعرفة علينا أن نتفكر في معناها في الأحاديث الشريف:

  روى البخاري في صحيحه هذه الأحاديث التي ذكرت فيها الحكمة:

 

  1.  {لا حسدَ إلا في اثنتين: رجلٌ آتاه اللهُ مالًا؛ فسلَّطَ على هَلَكَتِه في الحقِّ، ورجلٌ آتاه اللهُ الحكمةَ؛ فهو يَقضي بها ويُعلمُها.}

 

  1.  {الفخرُ والخُيَلاءُ في الفَدَّادينَ أهلِ الوبَرِ، والسكينةُ في أهلِ الغنَمِ، والإيمانُ يَمانٍ، والحكمةُ  يَمانيةٌ}.

 

  1.  {أتاكم أهلُ اليمنِ، هم أرقُّ أفئدةً وألينُ قلوبًا، الإيمانُ يَمانٌ والحكمةُ يمانيةٌ، والفخرُ والخُيَلاءُ في أصحابِ الإبلِ، والسَّكينةُ والوقارُ في أهلِ الغنمِ}.

 

  1. {فُرِجَ سَقْفِي وأنا بمكةَ، فنزلَ جبريلُ عليهِ السلامُ، ففَرَجَ صدري، ثم غسَلَهُ بماءِ زمزمَ، ثم جاء بِطَسْتٍ من ذهبٍ، ممتلئٍ حكمةً وإيمانًا، فأفْرَغَهَا في صدري ثم أطبَقَهُ، ثم أخذَ بيدي فعَرَجَ إلى السماءِ الدنيا، قال جبريلُ لخازنِ السماءِ الدنيا: افتحْ، قال: من هذا؟ قال: جبريلُ}.

 

 

  1. { إن من الشعر حكمة}.

 

واضح أن الحكمة في هذه الأحاديث الشريفة الصحيحة لا يقصد بها السنة، بل يقصد بها  الحكمة كما يفهمها العربي عندما يسمعها.

 

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين