دولة الكتاب والحكمة - 2 - الأولويات قبل تحكيم الشريعة


أخبر النبي صلى الله عليه وسلم صحابته أن عرى الإسلام ستنحل وتنتقض عروة عروة، وبالتأكيد تنفك أضعف العرى أولاً ولا تنفك أقوى العرى إلا بعد أن تكون كل العرى الأخرى قد انفكت. قال صلى الله عليه وسلم:

 

{لتنقض عرى الإسلام عروة عروة فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها فأولهن نقضاً الحكم وآخرهن الصلاة} (رواه المنذري في الترغيب والترهيب والهيثمي في مجمع الزوائد ورواه غيرهما). عروة الحكم هي أقل العرى متانة وأول عرى الإسلام انتقاضاً وانفكاكاً، أما عروة الصلاة فهي الأمتن على الإطلاق وهي آخر عروة من عرى الإسلام انتقاضا، وقد حصل انتقاض عرى الإسلام كلها تقريباً، إذ باستثناء بلدان محدودة كالسعودية والخليج، فقد ترك أغلب المسلمين الصلاة التي هي عمود الدين، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم ترك الصلاة بالكفر لأنه من أعظم الذنوب تماماً مثلما هو ترك الحكم بما أنزل الله، لكن ترك الصلاة إثمه على الأفراد وترك الحكم بما أنزل الله إثمه على الحكام.

 

المنطق أننا إذا أردنا أن نعقد عرى الإسلام من جديد أن نبدأ بالعروة الأقوى التي صمدت حتى النهاية ألا وهي الصلاة، وأن نترك الحكم إلى المراحل الأخيرة بعد أن يكون المجتمع قد تأسلم، ولا إثم علينا في تأخير الحكم بالشريعة وإقامة الدولة الإسلامية إلى أن يتأسلم المجتمع. تأملوا هذه الآية الكريمة: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} (الحج). ومكناهم في الأرض أي أقمنا لهم دولتهم، قال السعدي في تفسيرها (في تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان): {(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ) أي: ملّكناهم إياها، وجعلناهم المتسلطين عليها، من غير منازع ينازعهم، ولا معارض}.

 

هذه الآية الكريمة تبين لنا الأولويات التي لم تتغير قبل التمكين وبعده: إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ثم يضاف عليها بعد التمكين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ونستدل على أولويات ما قبل التمكين أي مرحلة "كفوا أيديكم" من هذه الآية الكريمة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)} (النساء).

هذا لا يقلل من أهمية الحكم بما أنزل الله لكنه واضح أنه يأتي بعد إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه الأسس الثلاثة تهيىء المجتمع للحكم بما أنزل الله. وعندها لا نتوقع أن يقاوم الناس تحكيم الشريعة، وعندها أيضا يزع الله بالسلطان ما لايزع بالقرآن كما ثبت عن عثمان رضي الله عنه قوله: {إنَّ اللهَ يزعُ بالسلطانِ ما لا يزعُ بالقرآنِ}، ويزع يعني يمنع ويردع. المشكلة أن كثيراً من الإسلاميين يظنون هذا القول يعني تفوق السلطان على القرآن في منع الناس من المنكرات، مما يبرر أن تكون الأولوية لإقامة الدولة الإسلامية من ناحية السلطة وتحكيم الشريعة، لا لأسلمة المجتمع على كافة الأصعدة أولاً. الله يزع بالسلطان تلك الأقلية من الناس الذين لا حياء عندهم ولا ضمير، المتمردين على القيم وعلى المجتمع، لأنهم لن يردعهم الإيمان، ولا يرتدعون إلا بالخوف من العقوبة. هؤلاء قد لا يصلون إلى عشرة بالمائة إذا ما أخذنا باعتبارنا نسبة حدوث اضطرابات الشخصية والإدمانات وغير ذلك، أما الأغلبية من الناس فيزعهم القرآن الذين ينهى عن الفحشاء والمنكر مثلما تنهى الصلاة بل هو أكبر نهياً، وكما قلت ربنا يريدنا أن نلتزم بأحكامه وفرائضه ومحرماته، لا أن يُلْزِمنا بها ونحن كارهون. وواضح أن البدء يكون بأسلمة المجتمع وتربيته على التقوى وإزالة الدواعي للمعصية، وتوفير الدواعي والمعينات على الطاعة، فالزنا على سبيل المثال لا يطهر منه المجتمع بجلد الزناة، فالجلد لا يكون إلا للمجاهرين الذين يعترفون بالزنا أو يقومون به دون أي تحرز بحيث يتمكن أربعة رجال عدول من رؤية العملية الجنسية بشكل لا يدع مجالاً للشك أن الزنا وقع فعلاً. الجلد يجبر الناس على أن يستتروا إن وقعوا في الفاحشة لكنه لا يمنع ولا يردع الناس ما لم تنههم التقوى والصلاة والقرآن وما لم يكن الزواج ميسوراً للشباب لأنه الأغض للبصر والأحصن للفرج، فلم يحرم ربنا الربا قبل أن يحل البيع والتجارة، أي قبل أن يمتنع الناس عن المعصية لا بد من تأمين البديل الحلال لإشباع حاجاتهم الفطرية.

 

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين