دولة الكتاب والحكمة – 1 - المبالغة في أهمية تطبيق الحدود

عُطّلت الحدود فزادت أهميتها

نَعِمَ المسلمون بالعيش تحت حكم الشريعة الإسلامية قروناً عديدة إلى أن جاء زمان جهلوا فيه دينهم ودنياهم، فتسلط عليهم أعداؤهم واستعمروا بلدانهم وعطلوا حكم الشريعة فيها، باستثناء قوانين الأحوال الشخصية. لكن المسلمون بدؤوا بالنهوض والصحو من سباتهم فأخذوا يصححون عقيدتهم ويخلصونها مما علق بها من مفاهيم فيها شبهة شرك، وفي نفس الوقت بدأ احتكاك المسلمين بالثقافة الغربية الناهضة، وبدأ اقتباسهم منهم واقبالهم على العلوم الحديثة. الأمم لا تنهض بسنة أو سنتين بل تحتاج إلى عدة أجيال وأحياناً لعدة قرون كي تستكمل نهضتها ويقظتها. في عام 1924 والمسلمون المهتمون بأمر الأمة مندفعون يعملون بجد وحماس من أجل نهوض بلدانهم وتقدمها العلمي والديني بعد أن صار  كثير من المسلمين لا يصلون إلا عندما يتقدم بهم العمر، بل منهم كثيرون تنقضي أعمارهم ويرحلون عن الدنيا وهم تاركون للصلاة، لا لأنهم جحدونها بل لأنهم جهلوا أهميتها وخطورة تركها، جاءهم خبر نزل عليهم كالصاعقة. لقد سقطت الخلافة العثمانية وألغيت نهائياً بعد قرون من العزة كانت فيها هي الرمز لجميع مسلمي العالم الإسلامي السنيين. شعر الإسلاميون – وهكذا صاروا يُدْعون – بإحساس يشبه اليتم بعد فقد الأب الذي الذي كانوا يباهون به رغم عيوبه الكثيرة. منذ ذلك اليوم أصبح تحكيم الشريعة واستعادة الخلافة الإسلامية أولى أولوياتهم.

 

ومع أن الأحاديث الشريفة تصف ترك الصلاة بالكفر فإن ترك الحكم بما أنزل الله الموصوف في القرآن بالكفر أيضاً، استقطب اهتمام الإسلاميين أكثر. وكلما زاد الوعي بسوء حالنا كلما تعلقنا أكثر بأمل أن تخلصنا الشريعة إن حكّمناها وترتقي بنا إلى حياة أفضل، وصار شعار الإسلام هو الحل كثيراً ما يرفع والإسلاميون واثقون من أنه شعار صادق إلى أبعد حد. كما كثر اهتمام المفكرين الإسلاميين بالأمر وتأصيله فظهرت مفاهيم مثل الحاكمية حيث رأى المتحمسون للدولة الإسلامية أن الحاكمية لا تنبغي إلا لله، وإن جعلها للأمة نوع من الكفر والتعدي على حقوق الله، وبالغ بعض المفكرين الإسلاميين مثل المرحوم سيد قطب حتى جعلوا من يُشَرِّع للناس متألهاً ومن يطيع شرعاً غير شرع الله مشركاً ولم يميزوا بين خضوع الإنسان للقوانين المفروضة عليه في المجتمع الذي يعيش فيه وبين طاعته للشرع مع إيمانه أن ما يمنعه هذا الشرع حرام لا يحل له، وأن ما يمنحه له هذا الشرع حلال له، وأنه مأجور من الله على طاعته لشرعه بخلاف القوانين التي لا يراها ديناً ولا يرى الالتزام بها عبادة، إنما هو إما خاضع لها مكره عليها، وإما متمسك بها عن هوى في نفسه لأنها تعطيه مكتسبات ليست من حقه، كما لو ملكته البيت الذي هو مستأجره. وهكذا ظهرت جماعات جهادية تكفر الشعوب المسلمة وتستحل قتالها، وقتل كل من يلزم قتله منها، ظناً منهم أن كل مشرك إلى يوم الدين لا يعصم دمه إلا إيمانه بلا إله إلا الله إيماناً لا تشوبه شائبة من شرك.

 

لقد انشغل الإسلاميون الجهاديون والسياسيون وحتى الدعويون التربويون بهمّ إقامة دولة إسلامية تحكمها الشريعة وتقيم الحدود وتحارب الفساد الأخلاقي والفكري القادم من الحضارة الغربية. الجهاديون والسياسيون الإسلاميون كان من الطبيعي تركيزهم على هذه القضية، لكن الصراع الدائم بين هذه التيارات وحكومات البلدان الإسلامية وضع جميع الإسلاميين حتى الدعاة المسالمين في دائرة الاتهام والشك والملاحقة وتقييد الحريات والتحركات، مما استنزف الجهد والأعمار بين من يقتل ومن يسجن ومن يهاجر لينجو من السجن أو القتل، فلم ينعم الإسلاميون في أكثر البلدان الإسلامية بفترات استقرار وراحة تسمح لهم بتطوير فكرهم ليتماشى مع العصر ويسمح لهم بالبناء الحضاري الإسلامي، وإن كانت بعض البنوك الإسلامية قد أنشئت ونشطت في بعض البلدان، لكن جو التوتر والملاحقة واضطرار أكثر الجماعات الإسلامية للعمل السري حرم الأمة من أن تركز نخبتها الإسلامية على النهوض بفكرها وبالجوانب الاجتماعية والتربوية القائمة على الإسلام. مما جعل الإسلاميين يركزون جهودهم على محاولة إقامة دولة إسلامية تحكم بالشريعة ويتوقعون أن كل المشكلات ستنحل، وفات الكثير منهم أن إقامة الدولة الإسلامية يجب أن يسبقها أسلمة للمجتمع بتقوية انتماء المسلمين لدينهم وتقوية إيمانهم به وتربيتهم بحيث يتخلقون بأخلاقه وبناء ما أمكن من مؤسسات المجتمع المدني بروح إسلامية ليتمكن الناس أن يعيشوا حياة متكاملة قريبة من الحياة الإسلامية المنشودة وعندما ننجح في أسلمة المجتمعات ثقافياً وحضارياً واقتصادياً وفنياً تكون الأسلمة السياسية تحصيل حاصل، وهيّن تحقيقها لأن كل أسسها قائمة.

 

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين