دور الفقيه الحضاري وقت الأزمات

مما تقرر عند أهل العلم والعقل أن حاجة الأمة إلى العلماء عامة والفقهاء خاصة مثل حاجتهم إلى الماء والهواء، فمجتمع بلا علماء مجتمع تائه، ومجتمع بلا فقهاء مجتمع متخبط، على أن حاجة المجتمع المسلم إلى الفقهاء ليس لحفظه المتون واستظهاره النصوص وتدريسه العلم فحسب، بل بدور الفقيه في قيادة الأمة نحو التزام الشرع، وحثهم على الاستقامة، والأخذ بيدهم نحو الإصلاح وبناء حضارة الإسلام لبني الإنسان.

 

وإن كانت تلك الحاجة لا تتعلق بزمن دون غيره، أو وقت دون أخيه، فإنها آكد في وقت الشدائد والأزمات والفتن والملاحم، حيث يختلط الحابل بالنابل، ويكثر الرويبضة، ولا يدري الناس أين السبيل إلى الملجأ والخلاص؟ فهنا يكون دور العالم الرباني الذي يرى ببصيرته ما يعمى عنه أهل الدنيا، فتكون الحاجة إليه ماسّة، والسماع إليه واجباً، والعمل برأيه فريضة.

 

مكانة الفقيه في الأمة

لقد أولت الشريعة للعلماء مكانة عظمى، لكنها أولت الفقيه مكانة أعظم، لأنه يناط بالفقيه قيادة الأمة نحو البناء الحضاري القائم على توحيد الخالق وإصلاح الخلق، وإرشاد العباد لما فيه الخير والرشاد.

 

ولهذا رفع الله قدرهم درجات وليس درجة واحدة، كما قال تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) (المجادلة: 11)، وأمر بطاعتهم وجعل طاعتهم من طاعته، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء: 59)، وقد فسر الصحابي الجليل جابر بن عبدالله هذه الآية بأنهم: «أولو الفقه والخير»، وقال مجاهد: العلماء والفقهاء.

 

ولهذا جعلهم النبي صلى الله عليه وسلم ورثته وورثة الأنبياء، فقال: «إن العلماء ورثة الأنبياء» (رواه أبو داود والترمذي)، وفضل النبي صلى الله عليه وسلم الفقيه على العابد فقال فيما أخرجه الترمذي: «فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد»

 

وظائف الفقهاء في المجتمع

إن وظيفة الفقهاء في المجتمع عظيمة، ومسؤولياتهم جسيمة، وإننا بحاجة إلى إحياء وظائف الفقهاء في المجتمع كما كانت في الزمن الأول، فإن أدوار الفقهاء اليوم محدودة معدودة، ضيقة خافتة، بيد أنها كانت في العصور السالفة ظاهرة زاهية.

 

وما أجمل ما أجمل به الآجري مكانة العلماء ووظيفتهم بقوله: «فإن الله عز وجل، وتقدست أسماؤه، اختص من خلقه من أحب، فهداهم للإيمان، ثم اختص من سائر المؤمنين من أحب، فتفضل عليهم، فعلمهم الكتاب والحكمة وفقههم في الدين، وعلمهم التأويل وفضلهم على سائر المؤمنين، وذلك في كل زمان وأوان، رفعهم بالعلم وزينهم بالحلم، بهم يعرف الحلال من الحرام، والحق من الباطل، والضار من النافع، والحسن من القبيح، فضلهم عظيم، وخطرهم جزيل، ورثة الأنبياء، وقرة عين الأولياء، الحيتان في البحار لهم تستغفر، والملائكة بأجنحتها لهم تخضع، والعلماء في القيامة بعد الأنبياء تشفع، مجالسهم تفيد الحكمة، وبأعمالهم ينزجر أهل الغفلة، هم أفضل من العباد، وأعلى درجة من الزهاد، حياتهم غنيمة، وموتهم مصيبة، يذكرون الغافل، ويعلمون الجاهل، لا يتوقع لهم بائقة، ولا يخاف منهم غائلة، بحسن تأديبهم يتنازع المطيعون، وبجميل موعظتهم يرجع المقصرون، جميع الخلق إلى علمهم محتاج، والصحيح على من خالف بقولهم محجاج.

 

الطاعة لهم من جميع الخلق واجبة، والمعصية لهم محرمة، من أطاعهم رشد، ومن عصاهم عند، ما ورد على إمام المسلمين من أمر اشتبه عليه، حتى وقف فيه فبقول العلماء يعمل، وعن رأيهم يصدر، وما ورد على أمراء المسلمين من حكم لا علم لهم به فبقولهم يعملون، وعن رأيهم يصدرون، وما أشكل على قضاة المسلمين من حكم، فبقول العلماء يحكمون، وعليه يعولون، فهم سراج العباد، ومنار البلاد، وقوام الأمة، وينابيع الحكمة، هم غيظ الشيطان، بهم تحيا قلوب أهل الحق، وتموت قلوب أهل الزيغ، مثلهم في الأرض كمثل النجوم في السماء، يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، إذا انطمست النجوم تحيروا، وإذا أسفر عنها الظلام أبصروا» (أخلاق العلماء للآجري، ص15-17).

 

دور الفقيه في الأزمات

وإذا كانت الأمة بحاجة إلى إرشاد الفقيه وقت الراحة والاعتياد، فإنها أحوج إليه وقد الشدائد والأزمات، فإن دور الفقيه فيها شديد، ورأيه فيها سديد، ومن أهم تلك الأدوار التي بالفقيه تناط، ومنه تطلب، وبه تتعلق، ما يلي:

 

أ- بيان سُنن الله في النوازل والأزمات:

فسنن الله في النوازل أنها امتحان للعباد واختبار، وسبر للأغوار، لها قواعد معلومة يجب اتباعها، ولها آثار مفهومة يجب علمها، ولها توابع يجب تحملها، وطريقها الصبر والرضا عن الله في كل ما ينزل بالناس من نازلة.

 

ومن فقه السنن البعد عن المعاصي والذنوب والآثام، والتزام الطاعات وطلب رضا الرحمن، وقد عاب الله تعالى على أقوام أنهم لم يلجؤوا إليه وقت الشدة، فقال سبحانه: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام: 43).

 

ومنها التسلح بسلاح الصبر، كما قال تعالى: (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة: 177).

 

ومنها التغيير بالإصلاح، فما غيرت نعمة من الناس إلا بما غيروا من كفرها وعدم شكرها، وقد قال ربنا مبيناً ذلك بقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: 11).

 

ب- تثبيت الناس على مبادئ الدين والقيم:

 

من أدوار الفقيه في المجتمع وقت الأزمات تثبيت الناس على مبادئ الدين والقيم، فإن الناس في وقت الفتن من الدين يتفلتون، وللشر يتبعون، وللفساد يقترفون، ومن الأخلاق ينسلخون، فكان واجباً على فقيه الأمة أن يحذر الناس من الانسلاخ من الدين وقت الأزمات، بل يجب عليهم أن يثبتوا على قواعد الدين ومبادئه، وتلك وظيفة الأنبياء لأقوامهم، والفقهاء من بعدهم، كما بين النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الشيخان من قوله: «إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها فجعل ينزعهن ويغلبنه فيقتحمن فيها فأنا آخذ بحجزكم عن النار وهم يقتحمون فيها».

 

جـ- الاجتهاد الفقهي في الأزمات:

 

ومن أدوار فقيه الأمة وقت الأزمات الاجتهاد فيما ينزل بالناس من نوازل ووقائع ليست مسطورة في الكتاب ولا معلومة إلا عند الفقهاء أولي الألباب، وتلك أسمى الوظائف للفقيه، لأنه يدل الناس على الله ببيان أحكامه لعباده فيما ينزل بهم من وقائع، وذلك بالنظر السديد في الكتاب الرشيد والسُّنة المطهرة، كما قال الشافعي في «الرسالة» (1/ 20): «فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليلُ على سبيل الهدى فيها».

 

د- الإرشاد إلى التدابير:

 

إرشاد الحكام والناس إلى أخذ التدابير من أوعى الفقه المطلوب، فإن أناساً ظنوا أن الاستسلام للشدائد والأزمات من الدين، وظنوه أنه إيمان بالقدر، وما عرفوا أن قدر الله يدفع بقدر الله، وذلك من خلال الأخذ بالأسباب والتدابير اللازمة.

 

ولهذا رفض عمر بن الخطاب رضي الله عنه زمن خلافته دخول أرض الشام لما علم بانتشار الطاعون فيها، فقال أبو عبيدة بن الجراح: أفراراً من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت وادياً له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله.

 

هـ- جمع الكلمة ووحدة الصف وقت الأزمات:

 

ومن أدوار الفقيه في المحن والشدائد جمع الكلمة، وتوحيد الصفوف، وتحذير الناس من دعاة الفتن، وأن يكون المسلمون شعوباً وحكومات على كلمة سواء حتى يقوموا بتدبير أمرهم فيما حل بهم، فيقطع دابر كل ناعق يريد بالناس فتنة، فيتبين الناس الأحوال والأخبار، من خلال الجهات الموثوقة، فإن الكلمة الطيبة تطفئ الحرائق وقت الشدائد، وإن الكلمة الخبيثة تشعل النيران وتهلك الحرث والبنيان، ولهذا حذرنا الله تعالى من الاستماع إلى المروجين للشائعات، فقال في محكم الآيات: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ (الحجرات: 6).

 

تلك جملة من الوظائف للفقهاء وقت الأزمات مطلوبة البيان، ظاهرة للعيان، واتباع الناس للفقهاء الربانيين لا المرجفين من أوجب الواجبات، وأعلى رتب الطاعات.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين