دفع اعتراض الألباني على إخراج زكاة الفطر بالقيمة

الحمد لله وسلام على عباده الذي اصطفى، لاسيما سيد ولد آدم المصطفى، وعلى آله وأصحابه المستكملين الفضل والشرفا، وبعد:

فقد اشتُهر عن الألباني رحمه الله اعتراض على الإفتاء بجواز إخراج زكاة الفطر بالقيمة، ساقه في جواب سؤال ورد عليه ضمن مجموعة أسئلة سلسلة الهدى والنور، وحاصله: أن من يفتي بإجزاء القيمة وجوازها أخطأ مرتين:

الأولى: لأنه خالف النص والقضية تعبدية.

والثانية: خطيرة جداً -كما قال- لأنـها تعني أن الله عندما أوحى إلى نبيه الكريم بأن يفرضها على أمته طعاما؛ فإنه لم يراع مصلحة الفقراء والمساكين.

هذا كلامه، وقد راج في مواقع التواصل التي ينشط فيها المتعصبون لرأيه ممن لا يأبه بالنظر وإنما همته القائل لا الدلائل، ولو دقق النظر لعكس الأمر وقطع بأن الذي أخطأ هو الشيخ الألباني نفسه، بل اعتراضه هذا دليل عدم معرفته بالفقه والأصول على رسم أهل الفن، لأن النص لا يقتضي الحصر كما هو ظاهر وليس في شيء من ألفاظه حصر الإخراج بما ذكر، وغايته أنه ذكر أنواعا مما يخرج في زكاة الفطر لمعنى كونـها عامة أقوات الناس إذ ذاك.

وسبب هذا أن النقد المضروب في زمانـهم عزيز جداً ولا يكاد يوجد، وكذلك الفلوس التي هي بدل النقد كانت عزيزة، وكانت عامة بياعاتـهم مقايضة أعيان بأعيان من الطعام والبضائع، فليس من الحكمة في شيء أن يذكر لهم إخراج النقد وهم لا يجدونه فتلحقهم بذلك مشقة وعنت، والشارع إنما قصد في أحكامه رفع العنت والمشقة، فتأمل.

فالنص الوارد في الباب خرج على مقتضى الحال الغالب إذ ذاك كسائر نصوص الشارع في مراعاة الأغلب الأعم، ولهذا لا ترد بصيغة تفيد الحصر، كي تستوعب الحال الذي قد يتبدل بتبدل الأزمان، فيصير ما كان غالبا: نادراً، وما كان نادراً: يغلب، ومن هنا زل من أنكر القياس من الداوودية، والألباني رحمه الله لا يعرف القياس والأصول وهو إلى الجمود على الظواهر والتعلق بـها أميل.

فعدم اقتضاء النص الحصر في المطعوم يفيد جواز إخراجها بغير المطعوم، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الدين النصيحة) قيل: يا رسول الله، لمن؟ قال: (لله ورسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم) فإنه لا يفيد حصر شرائع الدين في النصيحة، ولا حصر النصيحة فيمن ذكر، بل يمكن أن ينصح الكافر ونحوه.

وهذا ما فهمه السلف ولذا جوَّزوا إخراجها بالقيمة كما ذكرته في رسالتي (فض النزاع بين الخصوم في إخراج زكاة الفطر بغير المطعوم) وهي مطبوعة والنص راعى المصلحة بترك الحصر في الأطعمة، فمن يقول بالقيمة نظر إلى مآل النص ومقتضاه ومعناه ولم يخالفه، بل أصاب مقصده الكلي.

وإنما يرد ما قاله الألباني لو حصر العلماء القائلون بالقيمة الإخراجَ بـها دون الطعام وهذا لا قائل به، بل لا يتصور أن يقوله فقيه، وهم لا يقولون هذا، بل يقولون: إن القيمة بدل الأصل للحاجة والمصلحة المحققة العامة القطعية، فالأفضل إخراج الطعام إلا حيث كان الأنفع القيمة فإنـها حينئذ أفضل، لأن أحكام الشارع مبناها على تحقيق مصالح الناس بما هو الأنفع لهم.

ولهذا أخذ عمر البدل في الزكاة؛ طعاما أو عُروضا لأنه أنفع، وصنعه معاذ باليمن كما ذكرناه في (فض النزاع) فيلزم الألباني أن يرمي الصحابة بمخالفة النص أو بأنـهم يقولون إن الشارع لا يعرف المصلحة، واللازم فاسد جداً فالملزوم مثله.

ولهذا نحن نفتي الناس بأن الأفضل إخراج الطعام في القرى لأنـهم يحتاجونه، ولا زالوا يأكلون التمر ويخبزون الدقيق، بخلاف المدن فالأفضل إخراج القيمة لأنـهم لا يأكلون التمر وليس من طعامهم اليوم، وهم لا يخبزون الدقيق في بيوتـهم غالبا، فأي فائدة من إعطاء الدقيق لهم؟ بل هذا عبث يلزم الألباني نسبة الشرع إليه في أحكامه، ولهذا نجد الفقراء في المدن يبيعون الطعام الذي يدفع لهم في زكاة الفطر للحصول على النقد!

وقول الألباني: القضية تعبدية، غلط منه، فإنه إن أراد الاتباع المحض لم يلزم منه منع القياس، ضرورة أن الاتباع لا ينافي الجواز، بل هو مقام ورع لا يلزم به المكلفون، كما قال بعض العلماء:

وإن تُرد أعلى مقامات الكمالْ...في الاتباع فاقْفُ أضيقَ المقالْ

في حقِّ نفسك فقط لا غيرها....إذ لستَ آمناً إذن من شرِّها

وخلِّ كلَّ من سواك يتَّبعْ............مشروعَهُ ضيِّقَهُ والـمُتَّسِعْ

لقولهمْ ولم يجُزْ للورعِ.............أن يحمل الناسَ على التورُّعِ

وإن قصد أن العلة تعبدية فيمتنع القياس عليها، فهو من عدم المعرفة بطرائق القياس ومعانيه، لأن العلة ظاهرة معقولة المعنى وهي إغناء الفقراء في العيد عن السؤال، وهذا معنى منضبط ظاهر يصح نوط الحكم به وإلحاق ما في معناه به، ولهذا قال العلماء إن إخراج القيمة في صدقة الفطر اليوم أنفع استحسانا لأن الواقع يقضي بذلك.

ولهذا أفتى بعض الشافعية بخلاف مذهبه مراعاة لتحقق علة صدقة الفطر على وجه أكمل بالقيمة في زماننا، فذكر العلامة أحمد الطيبي الشافعي في نظمه اللطيف الذي ضمَّنه المسائلَ التي يحتاج الشافعيةُ فيها إلى تقليد الحنفية، مسألةَ إخراج زكاة الفطر بالقيمة نقداً في جملة المسائل التي يفتى بـها بقول الحنفية اليوم لأنه أكمل في تحقيق مقصود الشارع من الحكم، فقال:

ودَفْعُنا من ذهبٍ عن فضه...وعكسُهُ عند أبي حنيفه

يكفي كذاكَ كلما ينتفعُ ......به الفقيرُ كثيابٍ تُدفَعُ

وقُلْ زكاةَ الفطرِ مثل المالِ...فقِسْ به في سائرِ الأحوالِ

فتَدفَعُ القيمةَ عنها إن تشا...أينَ أردتَ أو سواها كنِشا

على أن في قول الشيخ الألباني إن من يقول بجواز القيمة في صدقة الفطر للمصلحة وكونه أنفع للفقراء اليوم، يلزمه أن ينسب الشارع إلى عدم معرفة مصلحة الناس، غريب جداً! وهو ينادي عليه بقصور الاطلاع في المسألة، فإنه لو كان يعلم أنه قول طائفة من السلف والأئمة ما اجترأ على مثل هذا اللازم الذي يتضمن سوء الظن بأهل العلم وهم أمناء الشريعة، ولكن الألباني يتوهم أن هذا هو مذهب الحنفية دون غيرهم وهو يظن لعاميته في الفقه والنظر أنـهم يخالفون الآثار!

وأيضا فالحنفية وغيرهم ممن يجوز القيمة لا يقولون إن إخراج الطعام لا مصلحة فيه للفقير مطلقا، بل يقولون إن العرف اليوم قاض بأن النقد أنفع من الطعام لتغير الحال والعرف، ولا ينكر تغير الأحكام الاجتهادية بتبدل العرف كما تقرر في قواعد الفقه، ولهذا قطع أبو بكر الأعمش وأبو جعفر الهندواني من الحنفية بأن الأفضل إخراج الطعام لأن فيه إظهاراً للسنة، وخروجا من الخلاف، مع أن مذهبهما جواز إخراج القيمة، فإنـهما من أعيان المجتهدين في مذهب أبي حنيفة، ومن الرفعاء في النظر.

ومراعاة تبدل الحكم الظني لأجل تغير العوائد إذا تحقق منه مصلحة أو حاجة عامة قطعية بالاستناد إلى عموم أو قياس أو نص ضعيف، مذهب النظار من الفقهاء في عامة المذاهب، وقد أفتى أبو الخطاب الكلوذاني الحنبلي بجواز أخذ الأجرة على إطراق الفحل إذا دعت إليه حاجة مع ورود النص بمنعه، وأفتى المالكية بجواز تضبيب الإناء بالفضة للحاجة مع صحة النهي فيه، وأفتوا بجواز الأكل من الغنيمة قبل القسمة للحاجة والنهي فيه ثابت صحيح، وأقر عمر فرار عمرو بن العاص بأهل الشام من الطاعون إلى الجبال مع ورود النهي فيه، وجوَّز الإمام أحمد تخصيص بعض الأولاد بالهبة لحاجة به كزمانة ونحوها مع ورود النص بمنعه، وغير ذلك كثير في مذاهب العلماء، فهل يقال في هؤلاء السادة الأئمة الهداة إنـهم ينسبون للشارع عدم مراعاة مصالح العباد، وهم أتبع للسنة وأعلم بـها من كل من جاء بعدهم!

تنبيه: أخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح من طريق زهير بن معاوية عن أبي إسحق السبيعي، وهو تابعي جليل أدرك ثمانية وثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسمع منهم، كما قاله العجلي وغيره، ورأى أمير المؤمنين علياً عليه السلام يخطب على المنبر، قال أبو إسحق: (أدركتهم وهم يعطون في صدقة رمضان الدراهمَ بقيمة الطعام).

وقد سرى إلى بعض المشتغلين بالحديث ممن يقلد الألباني ولا يحقق النظر، توهُّم إعلال هذا الأثر بما لا ينتهض للتعليل، فنقل عن أبي زرعة أن زهير بن معاوية سمع من أبي إسحاق بعد اختلاطه، وهذا الذي نقله صحيح ولأجله نص الإمام أحمد على أن في حديثه عنه لين، وإن كان الذهبي ردَّ رميه بالاختلاط وقال إنه لم يختلط وإنما شاخ وكبر فنسي بعض حديثه، ومن الحفاظ كأبي عمرو بن الصلاح من قصر اختلاط أبي إسحاق على حديث ابن عيينة عنه.

لكن بتقدير أنه اختلط وأن زهير بن معاوية سمع منه بعد ذلك، فلا يستقيم تعليل هذا الأثر باختلاطه، لوجوه:

أحدها: أن العلة بذلك إنما تتأتى في المتون والأسانيد، ولا يجيء هذا في مثل هذا الأثر لأنه حكاية فعل شاهده، فإن التعليل باختلاطه يقتضي أن يكون أخطأ في الإسناد أو المتن أو في كليهما، وهذا بعيد هنا لأنه لا إسناد في هذا الأثر فوق أبي إسحاق حتى يخطئ فيه، ولم يرو زهيرٌ عن أبي إسحاق نصاً أو متنا، حتى يقال إنه وهم في لفظه لأجل اختلاطه، وإنما هذا حكاية فعل شهده ورآه، فلا وجه للتعليل باختلاطه في هذا الأثر.

ولا يستقيم أن يقال إنه أخطأ في حكاية ما شاهده، لأنه ليس له إلا احتمال واحد، وهو أن يكون أبو إسحاق رآهم يخرجون الطعام فحكى أنـهم يخرجون الدراهم لاختلاطه، وهذا باطل لأنه يلزم الطعن فيه بشدة الغفلة ولم يقل أحد إنه بلغ به الاختلاط هذا الحد.

وأيضا فلو قُدّر أنه حكى خلاف ما شاهده لزم أن لا يقرَّه عليه زهير ولا من رواه عنه من الأئمة، ولنُقل عنهم وعن علماء وقته الإنكار عليه، لأن هذا غلط لا يحتمل السكوت عنه، فإنه في مسألة تعم بـها البلوى، ولأنه يلزم منه الطعن على من أدركهم من السلف بالنقل عنهم ما هو خلاف السنة، ويلزم منه إقرار نقل هو كذب على السلف من الصحابة والتابعين، وهذا باطل بيقين ضرورة أنه لم يُنقل إنكارهم، وهذه لوازم فاسدة تقتضي فساد الملزوم وبطلانه، وهذا ظاهر.

الثاني: أن اختلاطه بتقدير انتهاضه علةً في الخبر، منجبرٌ بقرائن يزول معها ضررُ اختلاطه فلا يقدح فيه، وهو عمل أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز مدة خلافته الراشدة على مقتضاه كما في مصنف ابن أبي شيبه عن قرة قال: (جاءنا كتابُ عمر بن عبد العزيز في صدقة الفطر، نصف صاع عن كل إنسان، أو قيمته نصف درهم) وقد استوعبنا المنقولات السلفية الأثرية الواردة في هذا المعنى، في كتاب (فض النزاع) فلا نطول بذكرها لخروجه عن الغرض من هذا المقال.

وهو يدل على أن إخراج القيمة في زكاة الفطر معروف عندهم متقرر شرعُهُ دون نكير، وليس بمخالف للسنة وإلا ما حل له العمل بخلاف السنة ولا حل لعلماء التابعين في وقته وهم متوافرون إقراره، ولأن القياس والاعتبار يشهدان له، ويعضده من القرائن عمل السلف في الزكاة، ولأجل هذا كان النزاع في هذه المسألة واسعا لا يسوغ الإنكار فيه على المخالف.

الثالث: أن الشيخين أخرجا من حديث زهير عن أبي إسحاق ما صح عندهما، فإن قيل إنـهما إنما أخرجا منه ما توبع عليه، قيل غاية المتابعة أن تكون قرينة تقوي أن رواية زهير عنه ليست مما وهم فيه لأجل اختلاطه، ضرورة أن من اختلط من الحفاظ لا يلزم منه أن يخطئ في كل ما حدّث به بعد اختلاطه، ولهذا يصحح الحفاظ من حديث المختلط ما تشهد القرائن بصوابه، وهذا الأثر في زكاة الفطر مما قامت القرينة على أنه ليس مما غلط فيه أبو إسحاق، لما مر، فصح بيقين أن إعلال هذا الأثر باختلاط أبي إسحاق لا موقع له، وبالله التوفيق.

على أن الزهري قد وافق أبا إسحاق على هذا، فأخرج ابن زنجويه عن الزهري قال: (أخذتِ الأئمةُ في الديوان زكاةَ الفطر في أُعطياتـهم) وعليه عمل المسلمين أيام أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز كما مر، وبالله الثقة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين