دفاع عن الصحابة رضي الله عنهم (1-5)

هل ارتدَّ بعض الصحابة رضي الله عنهم؟

الحمد لله وصلاته وسلامه على رسوله وآله وصحبه.. وبعد:

فقد رأيت للدكتور عداب الحمش كلامًا فجًّا أثاره على أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهم الذين عدّلهم الله بنفسه، وزكّاهم رسوله كما قال الله: {ويزكِّيهم}، واتَّفق أهل السنة على عدالتهم كما حكاه الحافظ في (الإصابة) حتى قال ابن حزم رحمه الله: (الصحابة كلهم من أهل الجنة قطعاً، قال الله تعالى: ﴿لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى﴾ وقال تعالى: ﴿إنَّ الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون﴾. 

فتأمَّل كيف وعدهم جميعهم بالجنة من أسلم قبل الفتح أو بعده من غير مثنوية، فلذا يقول العلماء: إنَّ سيئات الصحابة لا تقع إلا مغفورةً لوعد الله، والله لا يخلف الميعاد، فممَّا أثاره عداب عن الصحابة الكرام:

الأول: ساق عداب من الصحيح حديث: (إنـهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى)، ثم قال: (أليس هؤلاء هم الصحابة، أو بعض الصحابة، فما داموا ممن يردون النار وما دام الرسول قال: لا ينجو منهم إلا القليل، فكيف تريدوننا أن نحبهم ونقدّمهم على حبيب الله ورسوله).!

فيقال له: هذا الخبر عند أهل العلم هو في أهل الردة أو في جفاة الأعراب أو في أمَّة الدعوة أو في أهل البدع أو في المنافقين أو في أهل الكبائر، على خلاف بين شراح الصحيح، وهم أزيد من ثلاثمائة نفس ليس فيهم من قال ما ادَّعاه عداب إنه في الصحابة فضلا عن أكثرهم كما زعم عداب، فمن العاقل الذي يدع قولهم، ويركن لتخاليط عداب.؟! 

وقد قال الفربري: ذُكر عن أبي عبد الله البخاري عن قبيصة قال: (هم الذين ارتدوا على عهد أبي بكر فقاتلهم أبو بكر يعني حتى قُتلوا وماتوا على الكفر) وهذا تفسير راويه، وقد تقرر في الأصول أنه أعلم بمعناه وأدرى به، ولهذا قدمه الحافظ ورجحه القاضي عياض والباجي وغيرهما. 

قال الحافظ: وقد وصله الإسماعيلي من وجه آخر عن قبيصة، وقال الخطابي: (لم يرتد من الصحابة أحد وإنما ارتدَّ قوم من جُفاة الأعراب ممَّن لا نصرة له في الدين، وذلك لا يُوجب قدحا في الصحابة المشهورين).

من معاني الصحبة في اللغة : 

وأيضا فإن الصحبة في اللغة تطلق على من اجتمع معك لـمامًا في أمر اشتركتما فيه كغزو ونحوه، ولو لمدة يسيرة، كقول أبي فراس:

وقال أُصيحابي الفرار أو الردى ... فقلتُ هما أمران أحلاهما مُرُّ

والصحبة في الأصل المرافقة للمؤانسة في سفر ونحوه، طالت كقوله تعالى: {يا صاحبي السجن} أو قصرت ولو ساعة، كما قال امرؤ القيس:

وقوفا بـها صحبي عليّ مطيهم...يقولون لا تـهلك أسى وتجمّلِ

وقد تكون أدنى من ذلك للحظة أو أطول من ذلك، وتكون للملازمة كما جمعهما الفرزدق في قوله:

وأطلسَ عسّالٍ وما كان صاحباً ...... دعوتُ لنار مَوْهِناً فأتاني

فلما دنا قلتُ ادنُ دونك إنني ........ وإياك في زادي لمشتركانِ

فقلتُ له لـمّا تكشّر ضاحكا ..... وقائم سيفي من يدي بمكانِ

تعَشَّ فإن عاهدتني لا تخونُني...نكُنْ مثل من يا ذيبُ يصطحباني

فأول البيت في صحبة السفر، وآخره في صحبة الملازمة، وتطلق على طول العشرة كالزوجة ومنه قوله تعالى: {وصاحبته وبنيه}، وقوله: {ولم تكن له صاحبة}، وتطلق على الملازمة للشيخ والأخذ عنه كما يقول أهل الحديث: أصحاب الزهري وأصحاب الأعمش ونحوه.

وتطلق الصحبة على من تمذهب بمذهبك وإن لم يلقك أو يدركك كقول الفقهاء: أصحابنا، وقولهم: أصحاب أبي حنيفة وأصحاب مالك ونحو ذلك وهم أتباع مذاهبهم ممن أدركهم فمن بعدهم، كما تطلق على من عاصرك وإن لم تجتمع به ومنه تسمية العلماء لمعاصريهم من أهل العلم بــ(صاحبنا).

وتطلق على من اشترك معك في عمل، وتطلق على من اشتغل في أمرك وخاض فيه وإن لم تتفقا في مذهب أو دي،ن كقوله تعالى: {وما صاحبكم بمجنون} وتطلق فيمن صحبك في شر كقول الحجاج: (ألستم أصحابي بالأهواز حين رُمتم الغدر). 

وإذا تبيَّن هذا عُلم أن إدخال الصحابة في معنى الحديث في الجملة من الجهل باللغة، وأن المقصود بالحديث: الأعراب من أمته ممن لم يلقه كما في رواية: (فأقول: أمتي أمتي) وفيهم من لم يصحبه إلا لماما وهم الأقل لأنه قال في الحديث: (رآني). وهذا مع نصِّ العلماء أنه لم يكن فيمن ارتد صحابي، دليل على أنه لا يعدُّ في الصحابة من هو مجهول العين والحال ممن لم يصحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصحبة الاصطلاحيَّة، وإنما رآه في موقف أو سمع كلامه في خطبة ونحو ذلك من النادر، فهذا يدخل في مسمى الصحبة لغة لا اصطلاحا، لأن النادر لا حكم له كما تقرر. 

وعليه تحمل رواية: (أصحابي) وهو بمفهومه يدلُّ على أنَّ رؤيته عليه الصلاة والسلام وصحبته تمنع من أن يذاد عن حوضه إلى النار، لكن لأنـهم ارتكبوا أعظم منها وهو الردة استوجبوا ذلك، ففيه تنبيه على شرف الصحبة وعظيم فضلها.

أقسام الصحابة عند ابن الجوزي: 

وقد نقل العلامة السفاريني عن ابن الجوزي أنه قسم الصحابة إلى ثلاثة أقسام: 

الأولى: من كثرت مخالطته ومعاشرته للنبي صلى الله عليه وسلم بحيث لا يُعرف صاحبها إلا بـها، فيقال: هذا صاحب فلان وخادم فلان لمن تكررت خدمته لا لمن خدمه مرة أو ساعة أو يوما.

الثانية: من اجتمع به صلى اللهُ عليه وسلم مؤمنًا ولو مرة واحدة، لأنه يصدق عليه أنه صحبه ولكنه لم ينته إلى الاشتهار به حتى يصير يُعرف.

الثالثة: من رآه صلى الله عليه وسلم رؤية ولم يُجالسه ولم يُـماشه، فهذا ألحقوه بالصحبة إلحاقا وإن كانت حقيقة الصحبة لم توجد في حقِّه، ولكن صحبة إلحاقية حُكميَّة لشرف قدر النبي صلى الله عليه وسلم لاستواء الكل في انطباع طلعة المصطفى صلى الله عليه وسلم فيهم برؤيته إياهم أو رؤيتهم إياه مؤمنين بما جاء به، وإن تفاوتت رُتبهم.

ولهذا ذكروا في الحد: الإدراك دون الرؤية لأنه أخص، لأن قصدهم إدخال جميع من تشرف برؤيته أو لحظه بعينه الشريفة حال كونه يعقل، في مفهوم الصحبة، فهؤلاء جميعهم يندرجون في الصحابة، فلا يستوون من حيث الفضل وشرف الصحبة والانتفاع بملازمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكلامه وسمته وهديه ورؤيته، وبه يُعلم أن إطلاق القول بشمولهم في حديث: "ليذادن أقوام عن حوضي" من أعظم الظلم والجهل، ومن هنا خصه أهل العلم بالنوع الثالث على تقسيم ابن الجوزي.

وأيضا فقد يقال: ليس كل من رآه رؤية عارضة يستقيم عدُّه في الصحابة، ولهذا يطلق بعض العلماء كأبي عمر بن عبد البر وغيره في بعضهم أن له إدراكًا ولا صحبة له، فهو صاحبٌ لغة لا اصطلاحا. 

وذلك مثل كثير من هؤلاء الأعراب الذين ارتدوا فورد فيهم هذا الخبر، ألا ترى أن اصطلاح الصحبة يصدق في جنسٍ من الناس رأوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يعدهم العلماء في الصحابة، كالأنبياء الذين رأوه في ليلة الإسراء، فهؤلاء لا يدخلون في حد الصحبة وإن صدق عليهم.

وعليه فللصحبة مفهوم وماصدق، فمفهومها: يشمل كل من رآه عليه الصلاة والسلام وأدركه، وماصدقها: لا يشمل إلا من لازمه وانتفع به فلا يدخل فيه هؤلاء الأعراب الذين ارتدوا وإن رأوه أو أدركوه.

ويقويه أن في رواية للخبر: "أُصيحابي" بالتصغير، وهو يدل على قلة عددهم من جهة كما قاله الحافظ، فيبطل ما زعمه عداب أن المراد به أكثر الصحابة، ويدل أيضا على قصر صحبتهم وندرتـها كمن رآه في موقف حال خطبة ممن لا يُعرف من الأعراب وهو معنى الحديث كما مر. 

على أنه جاء في رواية صحيحة أنه علل ذلك بأنـهم: (أحدثوا وبدلوا وغيروا) وما الذي بدله خيار الصحابة وغيروه وأحدثوه من الشرع وهم حفاظه وأمناؤه ونقلته والله يقول فيهم: {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا}.!؟ 

وذكر الحافظ أن عند الطبراني بسند حسن من حديث أبي الدرداء: فقلتُ يا رسول الله، ادعُ الله أن لا يجعلني منهم، قال: "لستَ منهم" فإذا كان أبو الدرداء ليس منهم فأولى من هو أفضل منه من الصحابة، من أهل بدر لحديث حاطب: "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" فلا تقع سيئاتـهم إلا مغفورة. 

ومن أهل بيعة الرضوان لحديث مسلم :"لا يلجُّ النار أحد ممن بايع تحت الشجرة" وغيرهم من الصحابة لقوله تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل}، ثم قال: {وكلا وعد الله الحسنى} فتأمل كيف وعد الله كل الصحابة بالجنة، من كان منهم قبل الفتح أو بعده، ووعد المجاهدين منهم والقاعدين بالجنة فقال: {فضَّل الله المجاهدينَ بأموالهم وأنفسهم على القاعدينَ درجةً وكلا وعد الله الحسنى} وعداب يعدهم النار.

والعجب من قول عداب: (فكيف تريدوننا أن نحبَّهم ونقدّمهم على حبيب الله ورسوله) ومَنْ طلب منه ذلك؟!! نحن نطالبك بسلوك سبيل أهل البيت الذين تزعم مودتـهم وموالاتـهم، ثم تخالف سنتهم في الصحابة، فهل قال هذا الذي تتقوَّله على الصحابة علي أو الحسنان أو السجَّاد أو الباقر أو الصادق وغيرهم سلام الله عليهم؟ وهل فهموا ما فهمت من هذا الحديث.؟ 

فلا لآل البيت انتصرت، ولا بـهديهم اقتديت، ولا للصحابة كسرت، ولن تضر إلا نفسك.

والرجل لا ميزان له في قبول الأخبار وردها إلا الهوى، فيرد خبراً متفقاً عليه إذا خالف هواه، ويقبل خبراً من (الأغاني) إذا صادف غرضه، ولهذا لا تقرعه الأخبار الصحيحة في النهي عن سب الأصحاب.!

حكم سب الصحابة : 

وبما أنه متمجهد وحده فلا يلقي بالاً لكلام الفقهاء أنَّ سبَّ الصحابي حرام وهو من أكبر الفواحش. قال الطيبي: ومذهبنا ومذهب الجمهور أنه يعزّر، وقال بعض المالكية. يُقتل، وقال القاضي عياض: سبُّ أحدهم من الكبائر، وهذا في السبِّ فكيف بالحكم عليهم بالنار.؟

ويقال لعداب: خبرنا عن مقالتك هذه في الصدِّيق والفاروق وعثمان وغيرهم من خيار الصحابة، هل تقدَّمك إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو علي أو الحسنان أو السجَّاد أو الباقر أو الصادق أو زيد أم لا.؟ 

فإن قال: نعم، طُولب بتصحيح النقل عنهم ودونه خرْط القتاد، وإن قال: لا، فيقال له: فلا وسَّع الله على من لم يسعه السكوت عما سكت عليه النبي وآله عليهم الصلاة والسلام، والله بالمرصاد.

والعجب أن الغلاة مثله يبدأ الواحد منهم بسبِّ الصحابة، ثم يتوب في آخر عمره إذا كان ممَّن أراد الله له الخير، كما حكى أبو القاسم بن بَرهان قال: دخلتُ على الشريف المرتضى في مرضه، وقد حوّل وجهه إلى الحائط وهو يقول: أبو بكر وعمر ولِيا فعدَلا، واستُرحما فرحما، أفأنا أقول: ارتدا بعد أن أسلما.؟ 

قال: فقمنا وخرجتُ، فما بلغت عتبة الباب حتى سمعتُ الزعقة عليه.!

وأما عداب فإنه بدأ سلفيًّا ثم ها هو في أعقاب عمره يثلب السلف الأول ويقع فيهم، ونحن نسأل الله أن يلهمه التوبة بالحديث الذي يتعاطاه، فقد قيل للإمام أحمد: يا أبا عبد الله: رجال من أهل الحديث لا يُرى أثره عليهم؟ فقال: يرجعون بالحديث إلى الخير.

وقد سمعت لعداب هذا كلمة في برامج الحملة الإيمانية الشاملة زمان حكم صدام، عن حديث :(خير القرون قرني) فجعل يذكر أنه دليل على عدالة الصحابة وفضلهم وفضل القرون الثلاثة، واندفع ينكر على ابن تيمية محاولته إدخال القرن الرابع فيهم لأنه كما زعم يريد به أن يشمل الإمام أحمد، فسبحان مصرِّف القلوب ومقلِّب الأبصار.!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين