دعائم الكمال النفسي 4-4

إشباع الشهوات:

 

لقد كان من أثر انتشار المذاهب الماديَّة في عصرنا الحاضر أن تغيَّرت القيم الخُلُقيَّة تغيراً كبيراً وأصبحت الفضائل النفسيَّة عند كثير من الناس عبثاً لا ضرورة له، بل عبثاً يَنبغي الخلاص منه، وترك النفوس تسترسل مع هواها دون مُعَاناة لكبته.

واستوعر الشبابُ ارتقاءَ المعالي وتسنُّم الكمال، وليتهم ـ لما أخلدت بهم أهواؤهم إلى الأرض ـ اعترفوا بالقصور، وتوارَوا بخزيهم. لا، إنهم شرعوا يُهوِّنون من شأن الخِلال الكريمة التي عَجَزوا عن تحصيلها، وراحوا يصفونها بأنها قيودٌ على الطبيعة البشريَّة تورث الضرَّ والاكتئاب.!

ومن هنا كانت السمة البارزة في عصرنا المسارعة في إشباع الهوى، واسترضاء الغرائز الدنيا حتى تروى. وري هذه الغرائزـ عن طريق الحرام ـ لا يَزيدها إلا ضراوة، فهي تطلب المزيد دون أن تدرك الشبع، والمجتمع البشري الذي تدور حَركاته على هذا المحور مجتمع طَافح الإثم سيء العُقْبى، تَطيش به نوازعُ الشره والأَثَرة، وتتولَّد فيه مشاعرُ الحسد والبغضاء، وقلما يَنجو من إثارة الفساد وسفك الدماء.

وتلك آفة الحضارة بعد ما زهدت في الدين، وتبرَّمت بتعاليمه: [فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ] {محمد:22-23}.

والحق أنَّ اتباع الهوى إن كان يطمس على حواسِّ الأفراد، فهو على المجتمعات الضالَّة ـ يضرب ليلاً طويل الظلام، بارد الأنفاس، بعيد الفجر. 

ونريد أن نُسارع إلى نفي شبهة تَرُوجُ عند الجاهلين بالإسلام، هي أنَّه يحرم الناس أموراً كثيرة، ما تطيب الحياة إلا بها، ويعترضُ رغباتٍ شتى ما يَستريح الخلق إلا بإشباعها. وهذا خطأ؛ فإنَّ الإسلامَ ما حَرَّم طيباً ولا حظرَ خيراً، وكل ما تَعْتدلُ به الطبيعة البشريَّة وتَستقيم فهو مباحٌ لها.

إنَّ الله ما حرَّم على الناس إلا ما عَلم أنه يَزيغ بهم عن الصراط، ويتسارع بهم إلى الشر. والإسلامُ لم ينكر قط الطبيعة المادية للإنسان، ولا حقوق الفترة التي يقضيها على ظهر هذه الأرض. غاية ما صنع أنَّه ذكَّر الإنسانَ بأنَّه مادةٌ وروح، وأنَّ صلته بالسماء أعرق من صلته بالأرض، ولذلك يَنبغي أن يَرعاها، وأن يَلتزم مَطَالبها.!

وفي أثناء وفائه بحقوق هذه الصلة العليا سوف تُنازعه نفسه أن يَتنكَّرَ لها، وأن يتمرَّد عليها، وهنا يجبُ أن يَكبحَ جماحها، وأن يُكرهها على قبول ما يُضَايقها، ومجاهدة النفس في هذا المضمار خُلُق لا ينفكُّ عن مؤمن، ولا يَسُوغ استثقال أمره أو الترخُّص فيه، وإنما تَرتفع منازلُ المؤمنين ويتألَّق جبين أهل التقوى، بمقدار انتصارهم على شهواتهم وامتلاكهم لزمام رغباتهم.

إنَّ العراكَ الباطني لا ضَجيج له، ولا سلاح فيه، ولكن هذا العراك أخطر في نتائجه من المعارك التي تَنتثر فيها الأشلاء، وتبذل فيها الدماء. ذلك، لأنَّ جهاد النفس هو الطريق الحقيقي لبلوغ القِمم التي تجعل الإنسان يحتضن المثل العليا، ويبذل دونها النَّفْس والنفيس، وقد جاء في الأثر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال عقب العودة من إحدى غزواته: (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر) [أخرجه البيهقي في الزهد من حديث جابر،  وقال: هذا إسناد فيه ضعف].

قال عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم قبل يوم القيامة، وتزينوا للعرض الأكبر [يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ] {الحاقَّة:18}).

وعن الحسن قال: (إنَّ المؤمن قَوَّام على نفسه، يحاسبُ نفسه لله عزَّ وجل، وإنما خفَّ الحساب يوم القيامة على قوم حَاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شقَّ الحسابُ يومَ القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة.

إنَّ المؤمن يفجؤه الشيء يُعجبه فيقول: والله إني لأشتهيك، وإنك لمن حاجتي، ولكن والله ما من صلة إليك، هيهات هيهات، حيل بيني وبينك، ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول: ما أردتُ إلى هذا، مالي ولهذا، والله لا أعود إلى هذا أبدا إن شاء الله. إنَّ المؤمنين قوم أوثقهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم. 

إنَّ المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئا حتى يلقى الله عز وجل، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وبصره، ولسانه وجوارحه).

وعن الحسن، في وصية لقمان لابنه: (يا بني إنَّ الإيمان قائد، والعمل سائق، والنفس حرون (1)، فإن فتر سائقها ضلَّت عن الطريق، وإن فتر قائدها حرنت، فإذا اجتمعا استقامت.

إنَّ النفس إذا أطمعت طمعت، وإذا فَوَّضْتَ إليها أساءت، وإذا حملتها على أمرِ الله صلحت، وإذا تركت الأمر إليها فسدت. واحذر نفسك واتهمها على دينك، وأنزلها مَنزلة من لا حاجة له فيها، ولابد له منها.

وإن الحكيم يذل نفسه بالمكاره، حتى تعترفَ بالحق، وإن الأحمق يخير نفسه في الأخلاق، فما أحبت منها أحب، وما كرهت منها كره).

وحدَّثنا أبو عُبيد الناجي أنَّه سمع الحسن يقول: (حَادثوا هذه القلوب فإنَّها سريعة الدثور، وأقرعوا هذه الأنفس فإنها طُلَعة، وإنها تنازع إلى شرِّ غاية.

وإنكم إن تُقَاربوها لم تبقَ لكم من أعمالكم شيئاً، فتصبَّروا وتشدَّدوا، فإنما هي ليالٍ تُعدُّ، وإنما أنتم رَكْبٌ وقوفٌ، ويوشك أن يُدعَى أحدُكم فيجيب ولا يَلتفت، فانقلبوا بصالح ما بحضرتكم. إنَّ هذا الحق أجهد الناس وحال بينهم وبين شهواتهم وإنما صبر على هذا الحق من عرف فضله، ورجا عاقبته).

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

(1) هذا مجاز، تقول: خيل حرون، والحرون هو الذي لا ينقاد لراكبه.

(من كتاب: الجانب العاطفي من الإسلام، للعلامة محمد الغزالي).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين