دعائم الكمال النفسي (2 / 4 )

 

الإلحادُ خيانةٌ عظمى: 

الدين مدرسةٌ لتعليم الكمالات، وغرسها في النفوس، وأخذ الناس بها حتى تنضج في أحوالهم وأعمالهم.

 إنه يُعرِّف الناس بربهم أولاً، لكنه لا يصلهم بالله على ما بهم من أَثَرة وشَرَاهة، وبغي واعتداء، بل يَغسل عن قلوبهم هذه الأوضار ويشرع لهم من العقائد والعبادات، والأخلاق والمسالك ما يُدرِّبهم على فعل الخير وحبِّ المعروف وتحسين الحَسَن وتقبيح القبيح.

وما نزعم أنَّ كل مُنتمٍ إلى الدين يُحرز ما يراد له من أنصبة الكمال، وإنما نؤكد أنَّ الدين يَستهدف الكمال النفسي لأتباعه قاطبة، وأنَّه كالمستشفى يَقبلُ كلَّ بشر، ويتولَّى عِلاجه بشتَّى الأدوية حتى يَبرأ من عِلَلِه، وتتمَّ له الصحَّة الروحيَّة المنشودة.

 

والناس يَتَفَاوَتون في حظوظهم من العافية يزودهم بها الدين بيد أنَّ من رفض هذا العلاج الحتم، وأبى إلا البقاء بأدوائه طُرد، وسُدَّت في وجهه أبواب الوصول إلى الله.

ذلك أنَّ عبادة الله مَنزلة لا يرقى إليها المفسدون والمجرمون، وأحلاس الشهوات، وعشاق العلو في الأرض والكِبْر على الخلق.

وهذا الصنف من الأشرار لا يؤذن له أن يُجاور الله في جَنَّته، فإن ما التصق به من دنايا يسوقه سوقاً إلى النار: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47)} [المدثر].

 أما الذين تكلَّفوا مَشاقَّ التهذيب والتنزيه، ونقَّوا أنفسَهم من أدران الشرِّ ونوازع الإثم فإنهم يأخذون طريقهم إلى الجنة مُمهَّداً ويقال لهم: [كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الخَالِيَةِ] {الحاقَّة:24}.

 

الدين إذن صلة بالله رَفعتْ أصحابها، وزكَّتْ أنفسَهم وصفت معادنهم وتلك هي حقيقة الكمال الإنساني، ولسنا نتصوَّر كمالاً إنسانياً مع انقطاع الصلة بالله، وإضمار الكُره لشرائعه.

إنَّ الجهل بالله، والوحشة من طريقه جذام يجتاح النفوس ويدعها لا تساوي شيئاً.

إن كنود المنعم الأكبر وإنكار وجوده، أو إنكار حقوقه هو الخيانة العظمى التي لا يُقبل معها خير يُقَدَّم، أو يكترث معها بميزة قائمة. ونحن نحبُّ أن نُعرِّف هذه الحقائق بجلاء، هناك من يظنُّ الدين صلةً بالله لا تُورث النفوسَ أدَباً ولا شَرَفاً، وهؤلاء كَذَبة على الإسلام يجبُ إبعادهم عن حظيرته.

وهناك من يظنُّ الاكتمال النفسي يُتوصل إليه دون الإيمان بالله، وإقام للصلاة وإيتاء للزكاة، وهؤلاء أدعياء مَغرورون لا يجوز أن تكون لهم حُرمة، ولا أن تُحفظ لهم مَكانة فإنَّ الدعامة الأولى لما تصبو إليه الإنسانيَّة من كرامة ومجد هي الاعتراف بالله والخضوع له والاستمداد منه والاحتكام إليه.

لقد شاعت في أوساطٍ كثيرة فكرة أنَّ المرء يُقاطع الدين، أو يُجامله بكلمات باهتة، ثم يختطُّ لنفسه طريقاً في الحياة لا تَعرف المسجد؟ ولا تقيم وزناً لمواريث السماء جُملةً وتفصيلاً.

وهو مع إقفار حياته من الدين؟ وفراغ قلبه من الله يزعم أنه استكمل أسباب الكرامة واستجمع خصال الخير.

أما مقاييس الخير والشر فقد انقلبت في وعيه رأساً على عقب، وما تظن بامرئ لا يستهدي بوحي، ولا يستيقن بآخرة؟ إنَّ حكمه على الأمور يَنبع من نفسه وحدها. وما نفسه؟ كائن إنْ ضبطَه العقلُ الحصيف حيناً اجترَّته الشهوات والأهواء أحياناً كثيرة فحسَّنت له ما يُريد، وقبَّحت له ما يَكره.

وقد رأينا الشيوعيين والوجوديين يرسلون أحكامهم على الأشخاص والأشياء فرأينا الأعاجيب. بل سمعنا من إخوانهم الإباحيين أنَّ هذه الأمَّة لن تنهض إلا إذا قَلَّدت أوروبا في "قاذوراتها" ونحن بعد ما بلونا القوم ما نظنُّ أحدهم يتحرَّج عن إتيان أمِّه دون حياءٍ!، وتقديم زوجته للآخرين دون مُبالاة!.

والغريب بعد هذا الكُفْر والفسوق أن يَزعم هؤلاء أنَّ لهم نَصيباً من الكمال الخُلقي والسلامة النفسيَّة، وأن يَرجُموا الدينَ وأهْلَه بالإفك والبهتان.

ولنتجاوز هؤلاء وسيرهم الخاصَّة والعامَّة ولنتساءل: هل قضية الإيمان بالله من التفاهة والهوان بحيث يَستوي فيها النفي والإثبات والشرك والتوحيد؟ هل هذه القضيَّة من خفَّة الوزن بحيث لا يَفترق فيها مؤمن وكافر ومُصدِّق ومُرتاب.

إنَّنا لو عرفنا عن رجل ما أنَّه يَتصوَّر الأرض مُربعاً لا كرة، أو يتصور مياه المحيطات عذبة لا ملحاً فإننا نزري بعقله، ونسخر من علمه. فإذا كان الخطأ في فهم بعض الحقائق الدنيا له هذه القيمة، فكيف لا نَكترث للخطأ الجسيم المتصل بالحقائق العليا؟. 

إنَّنا إذا عرفنا عن رجل ما أنَّه جحد جميلاً أسدي إليه أَكْنَنَّا له الضيق والاحتقار، فكيف بمن جحد نعماءَ الخلاق الرزَّاق تعالى وهو يتقلب فيها على أحيانه كلها من المهد إلى اللحد؟ والواقع أنَّ القول بكمال نفسي عند أي شخص مُلحد أكذوبة كبيرة لا تَعنى إلا واحداً من أمرين في نفس هذا القائل!

إما أنَّ الله غير موجود بالفعل، وبذلك لم يرتكب هذا الملحد شيئاً يُلام عليه.

وإما أنَّه مَوجود حقاً ولكن الجهالة والجحود ليسا رذائل تُسقط المكانة.

ونحن معشر المؤمنين نزدري هذه الأفكار والأحكام، ونرى الإلحاد أسَّ الدنايا، ونعدُّ أهلَه شرار الخلق وجراثيم الفساد. وهناك صنف ناعمٌ مَائعٌ يبدو كأنه مُحايد بإزاء هذه القضيَّة الخطيرة، إنه لا يَجْنح لا إلى السلب ولا إلى الإيجاب.

ربما قال لك إذا سألته: هل الله حق ولم هذا السؤال؟ وما جدوى الإجابة عليه؟ إنَّ حياة الجماهير غير مرتبطة بهذه الإجابة.

وربما استتلى يقول: إنَّ هناك قوَّة وراء المادَّة لها أثرها الكبير أو يقول: من الخير الاعتراف بألوهيَّة قائمة فلو لم يكن هناك إله لوجب التصريح بأنَّ الله موجود!.

هذا الصنف من الناس يُشبه المنافقين بالنسبة إلى الكافرين، وان اختلف لونُ التكذيب حسب الطباع التي تُسيِّر أصحابها.

والملحدون والمحايدون سواء؛ في أنَّهم يُريدون أن يَحْيَوا على ظَهر هذه الأرض وفقَ ما يَشْرعون لأنفسهم، دون التزام بأيِّ تَوجيه سَمَاوي.

ونحبُّ أن نَزيد الموضوعَ وُضوحاً، فليس الإيمانُ إقراراً بقوَّة غامضة أشبه بالصفات التي لا تمسكها ذات معينة. كلا إنَّ الإيمانَ اعتراف بالله المريد القادر المهيمن الذي أَمَرَ ونهى، وأعطى الناسَ فُرصة مُحدَّدة لتنفيذ أمْرِه ونَهيه، وهو رقيبٌ عَليهم، وسائلهم يوماً عن كلِّ صَغيرة وكبيرة كُلِّفوا بها.

فليس بمؤمن هذا الذي يَقول: إنَّ في العالم أو وراءه قوة لا ندري عنها شيئاً، لا صلة لها بنا أو لا صلة لنا بها في سلوكنا الخاص والعام.

ثم القول بأنَّه لو لم يكن هناك إله لوجب أن نُشيع الإيمان به لمصلحة الأمن العام طبعاً، قول سخيف سمج فإنَّ إشاعةَ الكذب جَريمة، ولا معنى للإيمان بالوهم.

وهذا الكلامُ لا هدفَ له إلا أنَّ الدين يُمكن استغلاله في تسكين الدهماء بقطع النظر عن قيمته الحقيقيَّة. وهذا كفرٌ لا يقلُّ عن الجحود الصَّريح.

الإيمان اعترافٌ بالله الذى تكلَّم فأبان عن نفسه وعن مُراده من خَلقه، وبعث إلينا من يشرح لنا كيف نعيش وفقَ هذه التوصيات العليا: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)} [هود].

من أجل هذا كله نحن نحكم حكماً بَيِّناً حاسماً بأنَّ الكفران بالله والتمرُّد عليه ورفض توجيهاته خيانة عظمى، وإنَّ أبعدَ شيء عن الاحترام أناسٌ من هذا القبيل، وأنَّ الأساس الأول للتكامل النفسي اليقين في الله والاستكانة لحكمه والاتباع التام لهداه.

وأداءُ العبادات ركنٌ ركينٌ في بناء الكمال النفسي.

ومع أنَّ الأثر الخُلُقي والاجتماعي لهذه العبادات بعيد المدى إلا أنَّه ثانوي في تشريعها، والغاية الأولى من أدائها الوفاء بحق الله، والانقياد لأمره وإعلان التبعية المطلقة لذاته جلَّ شأنه.

بل إنَّ من صلى وصام دون أن تكونَ هذه المعاني مَسطورة في نفسه فلا صلاة له ولا صيام، ذلك أنَّ النيَّة المنظورة إليها في هذا المجال الاستسلام لأمر الله، وتحري مَرْضاته والفزع من سخطه والشعور بأنَّ المرء ما خُلق إلا ليمدح ربَّه ويُثنى عليه بما هو أهله، ويَنفي عنه كلَّ نَقيصة، وينزهه من كل عيب، وهو بهذا التمجيد يُحقِّق الغاية من مَحْياه قال تعالى: [وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ] {الذاريات:56}، [فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى] {طه:130}.

وقد جاء في الحديث عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ، وَلَيْسَ أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ) [أخرجه مسلم]. 

ومن حقِّ الله الذي خَلق أن يُعرف ويُعبد. ومن حقِّ الله الذي رَزق أن يُذكر ويُشكر. ومن حقِّ الله الذي يَعلم السرَّ وأخفى أن يُراقب وأن يُستحى من مُخالفته. ومن حقِّ الله الذي يَرث الأرض ومن عليها أن يستعدَّ الخلائقُ للقائه.

وكل تفريط في هذه الحقوق رذيلة كبيرة، فمن عاشَ مقطوعَ الصلة بالله، فارغَ القلب من شُكره، خالي البال من مُراقبته، عديم الاستعداد للقائه فهو مَهما ارتقى من نواحٍ أُخرى حيوان غَادر خبيث، وكفره هذا خيانة عظمى تُزهد سوءتها بكل ما ينسب إليه من كمال.

مقلدو الحضارة المادية عندنا: 

رأيته لامعَ الشعر والنَّعْل، حسنَ الهندام، يتأنَّق في الحديث، ويتلطَّف مع الآخرين ويُفَرِّق البسمات والتحيات بأدب جم...

فقال لي صاحبي: ما رأيك فيه؟ إنَّه من أولئك الذين صَنعتهم الحضارة الحديثة على نحو مُعين.

قلت: ما تعني؟

قال: أعني أنَّه لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر!.

قلت: إذن فهو حيوانٌ مُستأنس!

قال: أفبعد هذا الارتقاء تَصفه بأنَّه حَيوان مُستأنس؟ قلت: إنَّ الاستئناس هو الوصف الذي أضفته عليه الحضارة، وسَيبقى حيواناً ما بَقي كافراً بالله، فإذا آمنَ فهو عندئذ إنسان.

إنَّه لطيفُ الشمائل، حلو المنظر، ولذلك قلت: إنَّه مُستأنس كهذه القطط والكلاب التي نَألفها ونسمح لها بالتطواف علينا، ولا نَلقاها بالرصاص، كما نلقى الذئاب والضباع.

واستتليت: أترى الخائنَ لوطنه عندما يُجَرُّ إلى حبل المشنقة؟ إنَّه قد يكون وسيمَ التقاطيع، وربما كانت له أمٌّ يَبَرُّها، أو زوجة يُحبُّها، أو رَحِمٌ يَصِلها، لكن شيئاً من هذا لا يذكر أبداً عند اقتياده إلى ساحة الموت، إنَّ الجرمَ الذي ارتكبَه أفظع، وأشنع من أن تُذكر بجانبه حَسَنة! ألم يخن وطنه؟. 

إنَّ خيانة قطعةٍ من الأرض تُسمى الوطن، جريمةٌ أهون من خيانة رب الأرض كلها. أهون من الكفر بالله رب العالمين.

إنَّ الحضارة المادية التي صدَّعت اليقين في القلوب هوَّنت من شأن الإيمان وجعلت الناس ينحنون لأقوامٍ حَاربوا الله والمرسلين، وربما أعجبوا بهم. بيد أننا لا نفقد عقلنا، ولا وزننا للأمور إذا اختلَّت مَوازين الناس وطاشت ألبابهم.

إنَّ إنكارَ الألوهيَّة جريمة كبرى، وإذا تلطَّخ بهذه الرذيلة أحدٌ فهو في نظرنا شخصٌ نجس. ونحن نعامل الأحياء والأموات على ضوء هذا الحكم الحاسم.

نعم نحن في ميادين الدعوة إلى الله نَعذر الجاهلين، ونتلطَّف مع غير المسلمين، بل إنَّنا مأمورون أن نَبَرَّ أهلَ الذمة، ونُقسط إليهم لكن تقرير الحقائق شيء والنظر في أحوال الجاهلين بها، والصادِّين عنها، والخارجين عليها شيء آخر.

في مَيدان التعليمِ والتربية لا خَلط بين الإيمانِ والإلحاد، ولا بين الشرك والتوحيد. يجب إحقاقُ الحق، وإبطال الباطل بصَرامة. يجب أن يُقال: إنَّ الصدقَ فَضيلة، وإنَّ الكذب رذيلة دون مُواربة، ويجب أن يُحترم الصادقون، ويزدرى الكاذبون.

وقد يَحدث أن نَلقى في ساحات الحياة أقواماً مَرْضَى يحتاجُ علاجهم إلى أَنَاة وسياسة وحكمة، حتى نَسُوق لهم الشفاء الذي حُرِموا منه. بل قد نحتاج إلى أمد بعيد حتى نقنعهم بما في أبدانهم من مَرَضٍ وما في كِيانهم من جَرَاثيم.

وإدارة الأمر مع هؤلاء لا يَعنى بتاتاً أن تَنقلب الحقائق، وتعوجَّ المقاييس، فالمؤمن مؤمنٌ والكافر كافر. وعقبى هَؤلاء الجنَّة وعقبى أولئك النار، ولا كلام.

وترسيخاً لهذه المعاني في النفوس أمر الله أن نُذَكِّر الضالين بعاقبتهم التي لا مَحيص عنها فقال : [إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ] {آل عمران:21}. وقال: [بَشِّرِ المُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا] {النساء:138}.

ولهذا التبشير أحيانه ومُناسباته التي يُساق فيها، ولكن روى الطبراني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار) [قال الهيثمي في المجمع: رواه البزار والطبراني ورجاله رجال الصحيح]. وقد صحَّح المحدثُ الكبير الأستاذ محمد ناصر الدين الألباني هذا الحديث.

 ويبدو أنَّ في عصرنا هذا ما يستدعي التذكير به، إنك ترى رجالاً كباراً وصغاراً يزورون أوروبا مثلاً فيقصدون أول ما يقصدون إلى قبر الجندي المجهول. ونحن لا نعرف من هذا الجندي، ولا نجزم بمصيره، فربما كان ممن لم تبلغهم الدعوة فمات جاهلاً. ولكنه على كل حال يُمثِّل قومه الذين دُفن بينهم، فإن كان في شَرق أوروبا فهناك يقولون: لا إله، وإن كان في غربها فالآلهة ثلاثة!. 

وهؤلاء الجنود في أغلب الظن مُعَادِين لنا نحن المستضعفين في الشرق لولا أن شغلَ اللهُ بعضهم ببعض. 

تُرى ما الذي يَجعل رجالنا يُقدِّسون هؤلاء؟ أهو تقديس للجحود أو للتثليث أو للاعتداء الذى لولا القدر لكنا ضحاياه؟.

لندع هذه الفروض، ولننقل هنا كلام الشيخ ناصر في شرح الحديث السابق قال: (وفي هذا الحديث فائدة هامة أغفلتها كل كتب الفقه، ألا وهى مشروعية تبشير الكافر بالنار إذا مرَّ بقبره، ولا يخفى ما في هذا التشريع من إيقاظ المؤمن وتَذكيره بخطورة جُرم هذا الكافر حيث ارتكب ذنباً عظيماً تهونُ ذنوب الدنيا كلها تجاهه ولو اجتمعت، وهو الكفر بالله عز وجل والإشراك به الذى أبان الله تعالى عن شدَّة مَقْته إياه حين استثناه من المغفرة فقال: [إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ] {النساء:48}، ولهذا عندما سئل النبي صلى الله عليه وسلَّم عن أَيِّ الذَّنْبِ أَعْظَم؟ قَالَ: (أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ) [أخرجه البخاري ومسلم].

إنَّ الجهل بهذه الفائدة أودى ببعضِ المسلمين إلى الوقوعِ في خلافِ ما أَراد الشارعُ الحكيم منهم، فإنَّنا نعلمُ أنَّ كثيراً من المسلمين يَأتون بِلاد الكفرِ لقضاء بعض المصالح الخاصَّة أو العامَّة، فلا يَكتفون بذلك حتى يَقصدوا زيارة بعض قبور من يسمونهم بعظماء الرجال من الكفار، ويضعون على قبورهم الأزهار والأكاليل، ويَقفون أمامها خاشعين مَحْزونين، مما يُشعر برضاهم عنهم وعدم مقتهم إياهم، مع أنَّ الأسوةَ الحسنة بالأنبياء عليهم السلام تَقْضي بخلاف ذلك، كما ثبت في هذا الحديث الصحيح. واسمع قول الله عز وجل: [قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالبَغْضَاءُ أَبَدًا] {الممتحنة:4}.

هذا مَوقفهم منهم وهم أحياء، فكيف وهم أموات؟ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لما مرَّ بالحِجْر: (لاَ تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلاَءِ المُعَذَّبِينَ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلاَ تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ، لاَ يُصِيبُكُمْ مَا أَصَابَهُمْ) [أخرجه البخاري ومسلم].

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر : (كتاب الجانب العاطفي من الإسلام، للعلامة محمد الغزالي).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين