دروس في التفسير الموضوعي قصة موسى في القرآن الكريم -1-

 

قُبيل الميلاد:

 وقع العذابُ على بني إسرائيل في مصر، بتتبُّع المواليد الصغار من الذكور، وذبحهم على الفور، حتى أصبح اليوم الذي يولد فيه ذكر عند بني إسرائيل يوم مَأتم وهَمٍّ، ولأمر يشاؤه الله تعالى، يتحرَّك قومٌ من القبط للمحافظة على مَصَالحهم، وضمان استمرار هذا المورد الرخيص من العاملين، فيقابلون فرعون ويصارحونه بالحقيقية: إنَّه إذا استمرَّ الذبح في بني إسرائيل، مات الصغار، وسينتهي عمرُ الكبار قريباً، فلن يبقى للخدمة، والعمل غيرنا، وطلبوا منه إيقاف الذبح على بني إسرائيل ولو مؤقتاً، ويأمر فرعون بإيقاف الذبح عاماً، واستمراره عاماً آخر، كإجراء احتياطي حتى يبقى الإرهاب راسخاً في النفوس.

وفي هذا الجوِّ المحموم بالظلم والاستعباد، يريد الله تعالى إنفاذ أمره وإرادته، التي لا رادَّ لهما مهما تكن الظروف، ومهما تكن قوة الظالم وجبروته.

 

يريد الله تعالى لهؤلاء المستضعفين أن يجعلهم قادة وأئمة، وأن يورثهم الأرض ويمكِّن لهم فيها، كما قال تعالى:[وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ] {القصص:5 -6}.

أي: ونريد بسلطان ربوبيَّتنا أن نُنْعِمَ بنعمتنا العظمى على بني إسرائيل الذين اسْتَضْعَفهم فرعون في أرض «مصر»، فنخرجهم ممَّا هم فيه من ضَعْف وذلّ واستعباد، ونجعلَهم قادةً في الخير، هُداةً يُقْتدى بهم، ونجعلهم الوارثين لجنَّاتٍ وعيون وملك وسلطان في الأرض بهبةٍ منَّا لهم. ونريد بتنفيذ أقضيتنا تباعاً أن نُقْدِرهم على التَّصرُّف في أرض مصر والشام، ونُسلِّطهم عليها يتصرَّفون فيها كيف شاؤوا، ونُريَ فرعونَ، ووزيره الأول هامانَ والمعين الأكبر له على ارتكاب جرائمه، وجنودَهما المؤازرين لهما من هذه الطائفة المستضعفة ما كانوا يخافونه من ذهاب مُلكهم، وهلاكهم على يد مولود من بني إسرائيل، فأراهم الله ما كانوا يحذرونه.

 

"وهكذا تعلنُ الآيات عن واقع الحال، و عمّا هو مقدَّر في المآل، لتقف القوتان وجهاً لوجه، قوة فرعون المنتفشة المنتفخة، وقوة الله الحقيقية الهائلة، التي تتهاوى دونها القوى الظاهرة الهزيلة". (في ظلال القرآن، ص 2678).

الميلاد:

 في جوِّ التَّحدي هذا، تلد أم موسى ابنها، وترتعد خوفاً عليه، أن يصل نبؤه للجواسيس، أو أن تصل إلى عنقه السكين، وتقف حائرة ماذا تفعل؟ فهي عاجزة عن حمايته، أو اختفائه، عاجزة عن حجر صوته أن يَنُمَّ عليه، إلا أنَّ الله تعالى يوحي إليها كيف تتصرَّف لتخرج من حَيْرتها وخوفها في هذه الساعات العصيبة:

 قال الله تعالى: [وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ] {القصص:7}. أي: وأعلَمَ اللَّهُ أمَّ موسى إعلاماً خفيّاً: أنِ استمرِّي في إرضاعه في الخَفَاء، بعيداً عن أعين الرقباء، فإذا خِفْتِ عليه أن يُعلم أمرُه، ويصلَ خبره إلى جنود السلطة الفرعونيَّة، وأن يأتوا إليك ليذبحوه، فضعيه في التابوت، وألقيه في نيل مصر، ولا تخافي عليه من الغَرَق إذا ألقيتيه، فالله حافظه وحاميه، ولا تحزني على فراقه؛ إذ هو فراقٌ في زمنٍ قليل، إنا رادُّو ولدك إليك، إذ تكونين أنت مرضعتَهُ وحاضنتهُ، وإنا جاعلوه مستقبلاً حينما يكون أهلاً للاصْطفاء بالنبوَّة والرسالة، نبياً من الأنبياء، ورسولاً من المرسلين.

 

 وإذا كان الخوفُ عمَّا يلحق بالإنسان لأمر مُتوقع، والحزن غمّ يلحق بالإنسان لأمر واقع، فالله يبشرها بأنه سيحفظه من الاثنين، أما الأمر الواقع ـ الفراق ـ: [إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ] ، وأما المستقبل: [وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ] {القصص:7}، إنها بشارة بالحياة، وضمان بالعودة ونبوءة بالرسالة في آية واحدة ..

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين